ضرب الزوج.. أو الضرب على العنف الزوجي؟

TT

بعد معركة رضاع الموظفة لزميلها لتفادي الخلوة المحرمة، اشتعلت في الأزهر معركة جديدة حول ضرب الزوجة لزوجها للدفاع عن النفس ورد الاعتداء. ذهب البعض الى جواز الضرب، وأنكره البعض الآخر بحجة أن النص المحكم حصر حق التأديب بالزوج في حالة النشاز.

فجّر الجدل الفقيه السعودي، الشيخ عبد المحسن العبيكان، الذي انضم الى المرجع الشيعي اللبناني الشيخ فضل الله في مضمون الفتوى نفسها، وأصبح الموضوع في أولوية صفحات وبرامج الإفتاء في الإعلام العربي.

وكما كان الشأن بالنسبة لرضاع الكبير، فإن هذه الفتوى يجب ان ننظر إليها كحيلة فقهية لحل مشكل مطروح بقوة في الساحة العربية ـ الإسلامية هو العنف المسلط على المرأة الذي يأخذ في بعض الأحيان حدودا قصوى (عالجت الموضوع الروائية الأردنية عفاف بطاينة في عملها المتميز: خارج الجسد بصراحة كاملة).

فالظاهرة ليست في الواقع إشكالية فقهية، بل تحيل الى معضلة وضع المرأة المتردي إجمالا في المجتمعات المسلمة. بيد ان النصوص والأحكام الدينية توظف في تثبيت هذا الوضع ومده بالغطاء الشرعي.

صحيح أن الآية القرآنية تبدو صريحة جلية في السماح للرجل بتأديب زوجته في حالة خاصة استثنائية. بيد ان التقليد الفقهي الذي غلبت عليه النزعة الذكورية مال في الغالب الى إخراج الآية من سياقها، مع إخفاء وتهميش النصوص والآراء التي ظهرت مبكرا لتأويل المقصود من الضرب، بل قد يفهم منها تقييد الآية بالأحاديث الصريحة في النهي عنه بعد استفحال الظاهرة.

وإذا استثنينا التأويل بأن الضرب المقصود في الآية هو تأكيد للمقاطعة في الفراش، كما يذهب الى ذلك العلامة اللغوي الكبير ناصر الدين الأسد (حسبما أخبرني في جلسة علمية خاصة)، فإن العديد من الفقهاء أدركوا ان المقصد الشرعي يقتضي منع ضرب الزوجة الذي أبيح في فترة خاصة حددها سياق التنزيل.

فهذا التابعي عطاء ابن اسلم، مفتي مكة وفقيهها، يذكر عنه القاضي ابوبكر بن العربي في أحكام القرآن قوله تفسيرا للآية المذكورة :«لا يضربها وان أمرها ونهاها فلم تطعه. ولكن يغضب عليها». وذهب الى القول نفسه ابن الفرس الخزرجي، كما ينقل عنه محمد الطالبي في بحث متميز حول موضوع ضرب المرأة.

كما ان الشيخ الطاهر بن عاشور، مفتي تونس، خلص الى الرأي نفسه، وذهب الى انه «يجوز لولاة الأمور، إذا علموا ان الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها، أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم ان من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الأضرار بين الأزواج».

وقد كان بن عاشور، في تأويله وفهمه، أقرب للمعاصرة من الكتاب الإسلاميين الذين ذهبوا في الغالب الى النظر للعقوبة بصفتها تأديبا رمزيا، غير منتبهين الى اختلاف المنظومة المعيارية للعقوبة الجسدية بين الزمن القديم والحقبة الراهنة.

من هذا المنظور يخلص محمد الطالبي، في دراسته المعمقة لمسألة تأديب المرأة، الى القول «فإذا كانت إذن إباحة تأديب الزوجة بالضرب إباحة كراهية.. خيرا في الظروف الخاصة التي فرضتها، فإننا نستخلص من كل ذلك ان غاية الشارع، وهو الله، ومقاصده القصوى، تقتضي ان تزول هذه الإباحة بزوال الظروف التي أملتها».

وعلى هذا الحكم درجت اليوم العديد من التشريعات في البلدان الإسلامية، كمدونة المرأة والأسرة في موريتانيا التي تشبعت بالعرف المحلي القائم منذ قرون بتحريم العنف اللفظي والجسدي على المرأة، والنص على ذلك في شروط العقد، ومدونة الأسرة الثورية التي صدرت في المغرب عام 2003 بعد مشاورات واسعة ومباركة من علماء المملكة.

إن حل معضلة العنف الزوجي لا يكون إذن بتأجيجه من خلال إعطاء المرأة حق رد الاعتداء، ما يحول البيت الزوجي الى ساحة صدام وفتنة، بل يكون بإبطال مبدأ العقوبة انسجاما مع مقاصد الشرع واتباعا لآراء العديد من علماء السلف والخلف، الذين ذهبوا الى ان منطوق الآية هو الإباحة مع الكراهية التي تصل حد المنع عند تعطيل الحقوق واضطهاد المرأة، مع ما يترتب على ذلك من تشويه للدين وتعريضه لسهام الخصوم والأعداء.

بيد أن الأمر لا يقتصر على هذا الحيِّز الضيق، بل يتجاوزه الى ضرورة إنشاء فقه جديد للمرأة والأسرة، يراجع الكثير من الأحكام والفتاوى التي تلبست السياقات الاجتماعية الوسيطة، واصطدمت بمقاصد الدين في تكريم المرأة ومساواتها بالرجل.