علّموهم أن كرامة وطن تساوي: «مطبعة»!

TT

عندما قرأت في بريد القراء من يردد مقولات التحميد والتمجيد لمآثر الاحتلال الفرنسي البونابرتي لمصر، الذي بدأ بعدوان على الإسكندرية 28 ـ 6 ـ 1798 وغار، في ستين مليون داهية، 1801، بعد 3 سنوات و21 يوما إلى لا رجعة، أجدني لا ألوم المخدوع الخارج من مغسلة المخ الدائرة ليل نهار، فاللوم كله يقع على هؤلاء النصابين الذين ظلوا على مدى سنوات يمهدون، من مواقعهم الفكرية والثقافية، لقابلية الاستذلال ويؤسسون لسياسة الاستهانة بقيمة الكرامة بترديد ما أطلقوا عليه: الجوانب المضيئة للحملة (الاحتلال) الفرنسية بدعوى أنها التي أحضرت مطبعة لمصر (كأن مصر لم تكن أمامها وسيلة للحصول على مطبعة إلا بالاحتلال)، وأن كوكبة من العلماء صاحبوا الحملة (الاحتلال) التي حاربت المماليك (الأمراء المصريين)، حتى الوصول إلى الزعم غير المنطقي أن بونابرت (السفاح) هو الذي، بحملته، أسس لنهضة مصر الحديثة وعلى ذلك فيكون من الصواب (الباطل) الاتهام الآثم للشهيد محمد كُريِم (بضم الكاف وكسر الشدة على الياء) بأنه لم يكن عاقلا في اتخاذ قرار مقاومته الباسلة لقوات الاحتلال البونابرتي.

من دون الانجرار إلى المِراء الكاذب والسمج في حكايات «المطبعة»

و«وصف مصر» و«العلماء» و«حجر رشيد»... الخ، لا يتردد «ابن آدم» كرمه الله في عدم قبول بيع الأوطان بهذه المقايضة البخسة التي ترضى لنا بأن نساوي كرامة وطن بمطبعة وحجر مهما كانت قيمته حتى لو صحت هذه الحكايات في أنها أتت لمصر النهضة من ذيلها مع العلم والعرفان، فما بالنا وكل هذه الحكايات مغالطات وتزوير ودعايات عملاء ومرتزقة مال نجس؟ أما كيف كان ذلك؟ أنقل ما هو مذكور عند الدكتور محمد المهدي في مجلة «الهلال» يونيو (حزيران) 2004: أن نابليون جاء إلى مصر 1798 وكانت وراءه 47 سفينة حربية و400 سفينة نقل، تحمل 30 ألف رجل؛ منهم 24 ألفا من الجنود والباقي من المدنيين: أطباء ومهندسون ودارسون وعلماء، ولا يحسبن أحد أن هؤلاء جاءوا في قافلة إغاثة للشعب المصري، فهذا الذي يدَّعون أنه جاء حاملا مشاعل النور لا يكون في نيته وفعله حرق الكتب وتدمير ركائز الثقافة والحضارة القائمة وإبادة الشعب بالذبح حتى يخضع للعبودية ويرتضي أن يكون، على أرضه، الخادمَ المستذلَ للمغتصب القادم من خلف البحر وفي نيته قلع شعب من أرضه وزرع مستوطنين مجلوبين من اليونان وفرنسا وإيطاليا و.. غيرها. وكما قال محمد جلال كشك، رحمه الله، في كتابه «.. ودخلت الخيل الأزهر»: «.. وهذا المخطط للاستعمار البشري لمصر تحدث عنه نابليون صراحة في مذكراته في سانت هيلانة وهو يتحدث عن أحلامه..».

تعبنا من التذكير ببدهية أن المطبعة، وللعلم أخذوها معهم عند الرحيل، كانت لخدمة جيش الاحتلال وطباعة منشوراته، وأن الدراسات، والاهتمام بوصف مصر، كانت لقياس شكل الغنائم التي صارت تحت يد المحتل وحصرها لبرمجة استفادته منها بعد وضع السرقات في جيبه، فهل يمكن بعد ذلك، لذي عقل واستقامة وطنية، أن يظل يراها: البعثة العلمية الثقافية الجليلة والجانب المضيء في حملة عسكرية أطلق عليها مؤرخنا الجبرتي باختصار: «فتنة الفرنسيس؟».

أما أن «الفرنسيس» جاءوا لدحر استبداد «المماليك»، فالنيل النجاشي الحليوة الأسمر يشهد أنه امتلأ بزكائب الجثث التي ألقتها عصابة نابليون ممتلئة بشهداء مقاومة المصريين على طول البلاد وعرضها و.. طوبى للشهداء.