أجندة الرئيس الأميركي الجديد

TT

كان الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون يقول: «إنه الاقتصاد أيّها الغبيّ». وبالفعل ترك هذا الرئيس فائضا من المال عندما غادر الرئاسة. لكنّه استعمل القوّة العسكريّة اكثر من مرّة وبشكل فائض، فيما عمل على خفض ميزانيّة القوات المسلحة وعديدها، وحتّى إهمالها، وهذا أمر يتناقض مع نفسه.

يقول بعض المحللّين إن انتخابات الرئاسة الاميركيّة لم تكن كلّها تدور حول الموضوع الاقتصاديّ. فقد تمحورت رئاسة هاري ترومان الثانيّة على الحرب الكوريّة. ودارت رئاسة جون كينيدي حول الازمة الكوبيّة وحائط برلين. وكان هاجس ليندون جونسون، أن لا يخرج من الرئاسة وفي سجّله هزيمة حربيّة للولايات المتّحدة. وأخيرا، لم يكن في حسابات الرئيس بوش الابن ان تقع كارثة 11 ايلول، الأمر الذي غيّر مسار العالم ونظامه.

لذلك، يجب الفصل دائما والتمييز بين الخطاب الانتخابيّ، وبين الحكم في العالم الواقعيّ. لقد كان بوش في حملته الانتخابيّة ضدّ إعادة بناء الدول. فجأة، وبعد 11 ايلول، تبدّلت أجندته، ليُطلق مشروع الشرق الاوسط الكبير وغيره من المشاريع المتعلّقة بتغيير المجتمعات العربيّة، ومن الداخل.

لكن عادة، ومهما كان حزب الرئيس، فهو حتما سيستمرّ بواقع ما كان قبله، لأن القوى العظمى لا تملك نعمة التحوّل السريع كما الدول الصغرى. لقد تابع كلينتون الديموقراطيّ حصار العراق الذي كان قد بدأ مع بوش الاب. كذلك خاض كلينتون حرب «ثعلب الصحراء» ضدّ صدّام حسين، مع العلم ان اجندته الانتخابيّة كانت اقتصاديّة وبامتياز، وهو الذي اصدر استراتيجيّة الامن القومي تحت الشعار الذي يقول بالمزيد من المشاركة والتعهّد مع قوى العالم.

لكن هذا الامر لا يعني ان الحزبين متطابقان. فلكلّ منهما ثقافته السياسيّة التاريخيّة وسلوكيّاته الخاصة به. فماذا عنهما، حسب جورج فريدمان؟

يسعى الحزب الديموقراطيّ إلى تأخير اللجوء إلى القوّة العسكريّة قدر الإمكان (ويلسون والحرب العالميّة الاولى) ويسعى إلى خوض الحروب من ضمن تحالفات واسعة، وليس منفردا.

بعد كلّ حرب كبرى، كان الرئيس الديموقراطيّ يسعى إلى إنشاء مؤسسات للنظام العالميّ الجديد لمرحلة ما بعد الحرب. وأخير وليس آخرا، هناك تركيز ديموقراطيّ دائما على اولويّة التعاون مع اوروبا.

أما الحزب الجمهوري فيخوض الحرب عندما تخدم مصالح اميركا، ويتخوف دوما من المنظّمات الدوليّة والتحالفات. كما انه لا يثق بالسياسات الاوروبيّة.

كانت هذه الثقافة تسود عالم ما قبل 11 ايلول، وقبل افغانستان، وقبل التعثّر في العراق. فماذا عن عالم اليوم؟

لا يمكن لأيّ حزب التخلّي عن تاريخه وثقافته بين ليلة وضحاها. فهناك ثوابت، كما هناك متغيّرات. وهذا يعود إلى حجم المشروع الاميركيّ بشكل عام، والذي يغطّي كل بقعة من الكرة الارضيّة. إذاً، وبغضّ عن الرئيس القادم، وبغضّ النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، فهناك أمور تجرّ الرئيس إلى مواقع لا يرغب بها، ولم يكن يفكّر بها، وهي فرضت عليه. ألم يندرج بوش الابن في هذا الاطار؟ ألم يغيّر أجندته، وخطابه الانتخابيّ بالكامل؟ هنا، قد يُمكن القول إن السياسة الخارجيّة قد تكون هي هي بين الحزبين، لكن التغيير قد يحصل في الاسلوب فقط. فماذا عن بنود أجندة الرئيس الاميركي المقبل؟

بسبب ضخامة المشروع الاميركي، كما قلنا اعلاه، فإن الاجندة سوف تتضمّن كلّ المسائل العالميّة والموزّعة على كلّ القارات، إن كانت في السياسة، او في الاقتصاد والمال، او إن كانت في الشؤون العسكريّة.. فماذا عنها وباختصار؟

ـ اوّل بند على اجندة الرئيس هو حماية الداخل الاميركيّ، وإعادة صياغة استراتيجيّة جديدة للحرب على الارهاب.

ـ في اميركا الجنوبيّة على الرئيس الجديد التعامل مع ظاهرة اليسار المتجدّدة في كلّ من فنزويلا، وبوليفيا. والخوف في هذه المنطقة ليس من وقف تدفّق النفط إلى اميركا، لا بل من ترسّخ الوجود الروسيّ في الخلفيّة الاميركيّة.

ـ في اوروبا، على الرئيس الجديد إنقاذ حلف شمال الاطلسي وإبقاء التحالف الغربيّ، خاصة بعد الحرب الروسيّة على جورجيا، وبعد الازمة الماليّة التي تسبّبت بها اميركا. بكلام آخر، هناك خوف حقيقي من التفلّت الالمانيّ من الاطلسي، وذلك بسبب الحاجة الالمانيّة الى الطاقة الروسيّة، مع العلم بان التاريخ يقول إن هناك سوابق في الهروب الالمانيّ نحو التوافق السريّ مع روسيا.

من جهّة اخرى، على الرئيس الجديد إيجاد الاستراتيجيّة اللازمة للتعامل مع روسيا العائدة، لكن روسيا الأغنى والأجرأ على غير ما تعودنا عليه منذ سقوط الدبّ الروسيّ. وهذا امر، يتطلّب قدرات عسكريّة وماليّة، وهي أمور صعبة اليوم خاصة في ظل حالة الجيش الاميركيّ في العراق، وحالة وول ستريت.

ـ لا تبدو الصين خطرا داهما اليوم، فهي بحاجة إلى السوق الاميركيّة. لكن هذا لا يعني عدم التحضير لصعودها. من هنا قرّرت اميركا بيع تايوان السلاح المتقدّم، وبيع كوريا الجنوبيّة طائرات دون طيّار متطوّرة، وذلك بعدما ادخلت اليابان في مظلّة الصواريخ الاقليميّة، وبعدما حلّت المسألة الكوريّة الشماليّة. ألا تتحضّر اميركا بذلك لضرب طوق يحتوي الصين؟

ـ في جنوب ـ شرق آسيا، على الرئيس الجديد ان يحضّر للسيناريو الأسوأ لباكستان. فماذا لو سقطت الدولة؟ وماذا عن السلاح النوويّ؟ وماذا عن الحرب على الارهاب؟ الا تندرج المبادرة السعوديّة مع طالبان في إطار إيجاد حلّ ما؟ هذا عدا عن افغانستان التي تعتبر ساحة الاختبار الاساسيّة لقدرة حلف الأطلسي على الاستمرار.

ـ في آسيا الوسطى على الرئيس الجديد إيجاد استراتيجيّة تسمح ببقاء القوات الاميركيّة هناك، استعدادا لأي طارئ يتعلّق بالسلوك الروسيّ على الاقلّ في المدى القريب. هذا بالطبع إذا لم تفاجئ روسيا العالم واميركا بحرب على دولة في محيطها المباشر كما فعلت مع جورجيا.

ـ في افريقيا، على الرئيس الجديد العمل على تثبيت القيادة العسكريّة هناك (افريكوم). وهذا امر يتطلّب دبلوماسيّة متقدّمة تختلف عن تلك التي كانت معتمدة تجاه الشرق الاوسط. فكيف سينافس الرئيس الجديد التشبّث الصيني بالقارة السمراء؟ وكيف ستكون الحرب على الارهاب؟ وكيف سيتعامل مع محاولة العودة الروسيّة إلى شمال افريقيا؟ هذا عدا العمل على استمرار تدفّق النفط الافريقيّ الذي يشكل 25% من الاستهلاك الاميركيّ.

ـ في الشرق الاوسط، وهنا التحدّي الاكبر، على الرئيس الجديد العمل على الآتي:

إيجاد حلّ للوجود العسكريّ في العراق كي تعيد اميركا بناء احتياطها الاستراتيجيّ وتكون قادرة على التدخّل في اماكن اخرى عند الحاجة. لكن الحلّ في العراق يتطلّب موازنة بين إرضاء ايران وعدم إغضاب المملكة العربيّة السعوديّة. فكيف سيتعامل الرئيس الجديد مع هذه المعضلة؟ ألا تندرج تعقيدات المعاهدة الامنيّة الاخيرة في خانة التدخّل الايرانيّ كي لا تعطي ايران نصرا لبوش، الأمر الذي سيساعد وصول ماكين إلى الرئاسة؟ بالطبع نعم. وفي حال التوصّل إلى حلّ ما، فلهذا الامر تداعيات سلبيّة او ايجابيّة على كلّ من القضيّة الفلسطينيّة والساحة اللبنانيّة.

أخيرا وليس آخرا على اميركا ان تحمي نظامها الماليّ الذي اوجدته عقب الحرب العالميّة الثانيّة ـ بروتون وودز 1944. فقد فرضت ذلك النظام عندما كان العالم مدمّرا، وكانت اميركا الاقوى، الأغنى والأسلم من التدمير. لكن العالم تغيّر، وهو ليس مدمّرا، كما دخل إلى العالم الرأسماليّ ما يُقارب 3 مليارات شخص حتى. فكيف سيتصرّف الرئيس الجديد بعد ان اهتزّت صورة اميركا الماليّة؟

في الختام، نتذكر ما كتبه المفكّر الاميركي نيكولا سبايكمان الذي قال بحتميّة وضع اميركا قدما في آسيا، كي تشارك في صنع ميزان القوى هناك وإلا استبعدتها الاحداث. كما وضع القدم الاخرى في اوروبا. فماذا لو قامت في اوروبا قوّة كبرى موحّدة، وقامت في آسيا قوّة اخرى موّحدة، في غياب اميركا عن الساحة؟ ألا تصبح اميركا مطوّقة من المحيطين الهادئ والاطلسيّ. بالطبع نعم. هذه هي حتميّة وقدر أميركا الجغرافيّ. لكن الأمر يبقى في القدرة على التنفيذ، وهذا أمر يتطلّب رئيسا ذا رؤية متفوّقة، كما يتطلّب امكانات ضخمة. فهل لا تزال اميركا تتمتّع بهذه الصفات، أم أن أفولها قد اقترب؟ الجواب عن هذه الاسئلة هو في عهدة المستقبل القريب.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي