الأزمة المالية تطارد سيقان سارة بالين

TT

العالم يتغير بسرعة مذهلة. كل يعيد حساباته انطلاقاً من موقعه. هناك الشامتون وأكثر منهم الآسفون على أحلام تتحطم على صخرة الانهيار المالي المريع. الرئيس السابق للاحتياطي الاتحادي الأميركي آلان غرينسبان يعتذر أمام مجلس المراقبة في مجلس النواب، فلقد اكتشفت عيباً في فلسفته الاقتصادية التي كان يدير بها جيوب العباد وبطونهم. ولا يعرف الرجل لغاية الآن مدى خطورة هذا الخطأ، لكنه «في غاية الاستياء»، على ما يقول. العالم كله لا يعرف ماذا يفعل باستياء او اعتذار رجل اعتبر طويلاً بأنه العقل الموجه لأطول ازدهار عالمي في حقبة ما بعد الحرب، وهو اليوم أحد المسؤولين الكبار عن التسونامي المالي الذي يعصف بالكوكب، بسبب دفاعه المستميت عن رفع القيود المصرفية. أناس يستقيلون، وغيرهم يتفكرون، وكثيرون يدفعون الثمن والكل مسؤول.

فمن ذا الذي لم يبهر بالبريق وبذخ الأميركيين، بدون ان يلقي بالاً لأنانية متوحشة تحوّل المعدمين إلى وقود للمترفين. الفقراء صاروا أكثر فقراً، والطبقة الوسطى تكاد تتلاشى، ومنظمة بريطانية تحذر من ازدياد عدد المرضى الذين طارت عقولهم وراء بيوتهم التي فقدوها، او هي ارتجت خوفاً من ضياع سقف يحميهم. ليس ما يحدث مزاحاً، إنه درس في العظم، مع ذلك، يرجّح ان تنساه البشرية بمجرد ان تتجاوز الأزمة، لتعود إلى غيها.

من اليوم ثمة من يبشر بإيجابيات الكارثة. «الفيغارو ماغازين» خصصت ملفاً كاملاً لتذكير قرائها بالنعيم الذي ينتظرهم بعد الجحيم، بسبب تدني سعر النفط واليورو وعودة العقارات إلى أسعار مقبولة وانخفاض التضخم، واستيقاظ التضامن العالمي لمواجهة المحنة. لم تتحدث المجلة عن عدد الضحايا الذين قدموا قرابين على مذبح الجشع المنفلت من كل عقاب. لم تقل المجلة ان عدد الجوعى في العام الماضي وحده ازداد بنحو 75 مليون نسمة بسبب ارتفاع الأسعار، ووصل عدد من يعانون نقص التغذية إلى 923 مليون نسمة. لم تقل المجلة ان دول العالم مجتمعة لم تتكرم لغاية الآن سوى بنسبة ضئيلة جداً من مبلغ مليار ونصف المليار دولار، طلبته منظمة الغذاء العالمية، علّها تسدّ رمق الجوعى، فيما التريليونات تتبخر في البورصات ولا أحد يدري لماذا تختفي؟ ولا أين تذهب؟ مقال صغير تخصصه المجلة لـ«الرأسمالية الأخلاقية» المأمولة، يذكر بنداءات الكنيسة الكاثوليكية لـ«أنسنة الأموال».

أنسنة لا يبدو انها ستمس الأكثر حاجة. فالتفكير اليوم ليس بالبطون المتضورة، وإنما بخزانات السيارات التي لا يتمكن اصحابها من ملئها بالوقود، والحركة الاستهلاكية التي ستتباطئ وتحرم المستثمرين أرباحهم. التفكير يذهب إلى كيفية تأمين الطاقة التي يستهلكها العاملون في المدن الكبيرة بعيداً عن بيوتهم حين يضطرون لقطع مسافات طويلة تصل إلى 60 كليومتراً كل يوم. هؤلاء يستحقون لفتة بعد ان أقنعتهم الحضارة الغربية ان لزوم العيش يقتضي السفر اليومي الطويل وأكل السندويتشات السريعة والبغيضة، بدل إيجاد تجمعات عمل متفرقة بالقرب من المساكن، تسمح للمرء بأن يعمل ويعيش من دون شقاء. أمر لم ولن تأخذه الحضارة الحديثة بعين الشفقة، ولن يكون في اعتبار المخططين، إلا حين يتعلق الأمر بالذهب الأحمر أو الأسود.

المختبرات الأميركية تنكبّ بدورها هذه الأيام على دراسة جيل جديد من الإيثانول او الوقود العضوي بكلفة أقل ومواد أسهل توافراً. وسط كل هذه المحاولات للاستغناء عن أكبر قدر ممكن من البترول، ثروة العرب وحيلتهم، يصرخ الأمين العام لمنظمة أوبك عبد الله سالم البدري من إذاعة الـ«بي.بي. سي»، رافضاً بيع النفط بعشرة دولارات للبرميل كما حدث في التسعينات، وقائلاً بمنتهى الجدية: «نحن دول فقيرة وتحتاج لبيع النفط».

حقاً، لقد التبس الأمر كثيراً، فما عدنا نعرف الفقير من الغني، والكثير من القليل والجيد من الرديء. فبعد أن كانت بطاقات الائتمان مفخرة لمستعمليها تقرأ اليوم عنواناً هجائياً في إحدى المجلات الفرنسية يقول: «بطاقات الائتمان: فخ من البلاستيك». وكأنما اكتشف الناس، فجأة خطورة إغراءات بطاقاتهم اللعينة، ولم يكونوا على علم بذلك. وسيدة من طراز سارة بالين مرشحة لتكون نائبة لرئيس الإمبراطورية الأميركية، ما كان ليستكثر عليها أحد مستلزمات جمالية وفساتين بكلفة 150 ألف دولار في زمن العز، من أجل الترويج لحملة انتخابية مصيرية. فمبلغ كهذا تدفعه ميسورات كثيرات، على أزيائهن وهندامهن، وتلميع صورهن. لكن الظروف تغيرت في لمح البصر، وبدل ان تحتفي الصحف بالأنثى الجميلة التي تتهيأ لدخول البيت الأبيض كما المعتاد، تحولت حكايتها إلى فضيحة. وطاردت الكاميرات لا فساتين بالين فقط بل سيقانها وما وضعته في قدميها من أحذية لمّاعة، حتى باتت سيقان بالين أكثر أهمية مما تقول وتفعل. والتطرّف في الحالين قميء ومذموم، لكنه على ما يبدو سمة العصر، في السرّاء والضرّاء. تطرف منبعه الجهل، والسطحية، حين يتحكم في أنفاس البشر علماء الأرقام ورجال الأعمال والاستثمارات الوقحة، ويهمّش المفكر المنفتح. في زمن كهذا يصبح معتوه مثل هنتنغتون لا يؤمن بأفضل من «صراع الحضارات»، هو حكيم العصر، ومنغلق سوداوي على شاكلة فوكوياما ـ يعتقد ان التاريخ قد بلغ نهايته، والعبقرية انتهت من بعده ـ هو فيلسوف القرن.

ولعل صاحبة نوبل للآداب، الأميركية البديعة السوداء توني موريسون، هي أبلغ من تحدّث عن هذه الكارثة المالية سليلة العقم المعرفي، فوصفت شعبها بالمراهق الذي لا يفكر، «وما يعنيه هو ان يشتري أطيب الأطعمة ويختار أجمل المنازل واكثر الألعاب تسلية. مجتمع كل من فيه يستهلك ويرمى. وهدف اللعبة هو استغباء المستهلك». موريسون على حق حين ترى «ان ليس بمقدورك ان تجعل المجتمع ذكياً ومثقفاً ما دامت الرغبة الكامنة والمسيطرة عندك هي دفع الناس لشراء منتوجات حقيرة».

وموريسون المتألمة على شعبها، لم تنتبه ربما ان عدوى التنافس على شراء الأشياء الحقيرة والاستماتة في سبيلها باتت موضة عالمية. وإن كان الأميركيون يكدحون ثم يبذخون، فشعوبنا استوردت شهوة شراء الحقير من الأشياء من دون أن تفكر بأن الكدح شرط لا يمكن الاستغناء عنه. لذلك، صادق الأمين العام لمنظمة أوبك حين يقول: «نحن دول فقيرة» لا بل الصحيح اننا أكثر دول العالم فقراً.

[email protected]