لن تكون الأخيرة

TT

من قادة الحكومات الى المسؤولين الاقتصاديين الحاليين والسابقين وكبار اللاعبين على الساحة الاقتصادية الدولية نغمة الأحاديث أصبحت واحدة وهي أن هناك شيئا خطأ في النظام المالي الدولي نفسه أدى الى هذه الأزمة غير المسبوقة والتي لا يبدو أنها لم تصل الى ذروتها بعد ولا تزال تحمل معها مخاطر أن تجرف معها اقتصادات جديدة.

وقد كان أبرز المراجعين لأفكارهم ألان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي ومهندس السياسة النقدية الأميركية خلال 18 عاما الذي قال صراحة في شهادته الأسبوع الماضي إن الأزمة كشفت أنه كان على خطأ في قناعته بأن المصالح الذاتية للمؤسسات المالية تدفعها الى التصحيح الذاتي، وانه كان على خطأ في معارضته لوضع قيود على بعض المشتقات المالية التي كانت من بين أسباب الأزمة الحالية. وعلى الجانب الآخر في السوق قال جورج سورس، المضارب والمستثمر الدولي الذي اشتهر بأنه الرجل الذي اخرج الإسترليني من النظام النقدي الأوروبي في أوائل التسعينات بمضاربته ضده، إنها كانت فقاعة تراكمت على مدار 25 عاما وانفجرت.

وهناك الكثير مما يقال ويتخذ يمثل تراجعا أو مراجعات عن أفكار وسياسات سابقة أبرزها التدخل المكثف للحكومات باستخدام الأموال العامة، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا لإنقاذ المصارف والمؤسسات المالية المنهارة بضخ مئات المليارات، سواء بتوفير سيولة لها أو شراء حصص فيها في ما يشبه عمليات تأميم جزئية، وهو ما دعا البعض الى القول إن ذلك يثبت فشل أفكار السوق الحرة والرأسمالية، كما خرجت مقارنات عن الأزمة الحالية والكساد الكبير الذي تعرض له العالم في العشرينات.

ووسط كل هذا لا يبدو أن كل خطط الإنقاذ المالية، التي وظفت فيها أموال لو جمعت ستتجاوز التريليون دولار، قد أحدثت مفعولا حتى الآن في إعادة الثقة المفقودة الى الأسواق المالية، فكل شيء مستمر في الهبوط، من الأسهم الى المواد الخام الاستراتيجية مثل النفط، وقائمة الدول المهددة تتسع، فبينما يبدو أن الدول الصناعية الكبرى تدخل في ركود اقتصادي سيقلص الوظائف والاستهلاك والتجارة العالمية، تبدو القوى الاقتصادية النامية الجديدة، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا، داخل العاصفة، وقد تحتاج معاونة الصندوق الدولي، بينما هناك دول أخرى أزمتها أكبر مثل باكستان.

وقد كان هناك عنوان يعكس طبيعة الأزمة الحالية في عدد مجلة «النيوزويك» الأسبوع الماضي وهي أنها أول كوارث عصر الإنترتت التي سهلت للكثيرين من صغار المدخرين الدخول من وراء شاشات الكومبيوتر من منازلهم للمتاجرة في الأسواق المالية، كما أدخلت الإنترنت العالم في عصر المعلوماتية، وهذه كلها فوائد لا أحد ينكرها واستفاد منها العالم، لكن لها أعراضها الجانبية أيضا، فالإنترنت وفرت كميات هائلة من المعلومات الى درجة الإغراق بما جعل متابعتها أمرا صعبا، الى درجة أن كثيرين لم يتنبهوا الى بوادر الإعصار القادم.

كل هذه أفكار ومراجعات تكشف في جانب أساسي منها أننا أمام حالة جديدة ليست مشابهة لأي شيء سابق لأن أدوات العصر الحالي مختلفة جذريا عما كان قائما في عشرينات القرن الماضي، أو أي أزمات أخرى مر بها العالم، فحتى الإعصار الذي سمي بـ«الاثنين الأسود» في أواخر الثمانينات أو أزمة أسواق آسيا بعده لم يصلا الى ما نشهده حاليا من تهديد لأسس النظام نفسه. ولذلك فإن الحلول ليست مرتبطة بالعودة الى أفكار سابقة مثل الذين يأملون في عودة العصر الذهبي للاقتصاديات الموجهة، التي توجه فيها الدولة كل الأنشطة، ولكن بالبحث عن أفكار جديدة تتناسب مع العصر، فالتجربة الإنسانية هي أنه كلما تطورت الأنظمة البشرية فإنها بحكم تطورها هذا تخلق تحديات جديدة، وفي الحالة المالية فان الأزمة الحالية ربما كانت ضرورية من أجل التصحيح ومعالجة الأخطاء والسلبيات، ثم ستمضي السفينة وسيتجاوزها العالم، والشيء المؤكد أنها لن تكون الأزمة الأخيرة.