مدن وقوافل عشاق!

TT

لكل مدينة سيكولوجيتها الخاصة، فمنها العابسة، «النكدية»، المتجهمة، ومنها الودود، الطروب، المبهجة.. ومنها التي تحب السهر وتعشق الأسحار وكأنها من سلالة الخيام، ومنها التي تخاف الليل وتخشاه وتغمض عينها في خباء الظلام.. منها المندفعة العاشقة التي تحمل قلبها على كتفها لتبادلك الحب من أول نظرة، ومنها المتحفظة العنيدة التي تنتظر أن تحبها لكي تحبك.. ولما كانت الكتابة كالحب تبادل فرح، فإنني سأقتصر الكتابة هنا عن بعض عشيقاتي:

* طنجة: على مقهى يعبق برائحة البحر كان الروائي الراحل محمد شكري يعتصر آخر قطرات الفنجان، وهو يتحدث عن الذين شدوا رحالهم إلى طنجة: جان جينيه، تينسي وليامز، وبول بولز، ويقول: «هذه المدينة لها قوة جذب سحرية، تلم أشلاء ذاتك وتعتزم الرحيل فتجد نفسك في فراقها كلما تقدمت خطوة تراجعت إلى حضنها خطوتين».. الذي لا يعشق طنجة فتش في تجويف صدره فلربما لا قلب له..

* بيروت: فتاة جميلة تغتسل في «الروشة»، وتتسوق في «شارع الحمراء»، وتتناول قهوتها المسائية في «السوليدير».. إذا ما ذكرت بيروت لا تملك إلا أن تبعث إليها بـ«قبل للبحر والبيوت».. في شاطئ الرملة البيضاء خبأ صديقي اللبناني ساعة يده في جيبه، وسأل الجميلة الخارجة لتوها من البحر:

ـ يا ست دخلك قد إيش الساعة؟

فردت بحدة ممزوجة بغرور الجمال: «من الأفضل أن تشتري ساعة بدلا من سؤال الناس».

يعاقبها صديقي على جفوتها فيخرج الساعة من جيبه، ويعيدها إلى معصمه، وهي تتابع ما يفعل، وقد تملكها الغيظ، ولربما راحت في دواخلها تمقت الساعة التي أتت بمثله إلى جوارها.

* القاهرة: أم الدنيا التي شاب الزمان أمام ناظريها، ولم تزل صبية يافعة تعشق السهر.. ومعه كل الحق المبدع نجيب سرور حينما كان يقذف نوافذ البيوت ليلا بالحجارة، وهو يصيح: «القاهرة ليست للنوم يا أولاد الحلال، النوم في الغيطان»، فالقاهرة مدينة تطير النوم.

* المنامة: قال صاحبي ونحن نمخر كورنيش المنامة إلى نهايته البعيدة: «بحر واحد يجمل مدينة، فما بالك بمدينة هي عاصمة للـ «بحرين؟!».. فإذا كانت المدن ليست حجرا ولا بحرا ولا شجرا، بل بشر، فمن دواعي الحق القول بأن وجوه الناس الباسمة في المنامة هي أندر اللآلئ وأجمل الثغور..».

* باريس: مدينة لا تملك إلا أن ترتدي في ساعات ليلها ونهارها حذاء الخيام مرددا: «ولا قصر في الأعمار طول السهر»، فالنوم في باريس جريمة لا تغتفر.. في الصباح لا بد أن تكون مستيقظا حينما يرسل الفجر خيوطه الأولى لتغسل البيوت من آثار الغسق، فتشرق النوافذ بالشموس والأقمار، وفي الليل لا بد أن تكون سامرا حينما تخرج باريس إلى الشوارع جنية حسناء تغازل الغرباء وعابري السبيل.. انتح جانبا بجوار النافذة في مقهى ريش، وتخيل أن سارتر، وسيمون دي بوفوار، وفروبل، وتوفيق الحكيم مروا من هنا.

[email protected]