اتفاق سحب القوات

TT

اللغة أحيانا أهم من المضمون في التعاملات السياسية العربية، وكم كلمة سببت خراب الكثير من المشاريع، مثل «السلام» الذي صار سبة حتى اضطرت حماس للاحتيال وتسميته «هدنة طويلة». نتذكر كيف كاد انسحاب الاسرائيليين من غزة يفشل لأنه وصف بانه انسحاب اسرائيلي. بالفعل كان مشروعا اسرائيليا، لكنه صور كما لو كان احتلالا جديدا، فهوجم وانتقد وهددت اطراف فلسطينية بانها ستمنع الانسحاب الاسرائيلي. وبسبب غرابة ذلك الموقف غيرت السلطة الفلسطينية مفرداتها فصارت تسمي الحدث بـ«تحرير غزة»، بعدها ارتفعت الاعلام والزغاريد والمظاهرات الاحتفالية.

اليوم نحن امام جدل خطير حول مشروع يقوم بتنظيم وجود الاميركيين في العراق. فالبعض الذي يرفضه، عن صدق وقناعة ذاتية، ولا يشمل الذين يرفضونه لاسباب ايرانية، يرى في الاتفاق تمديد للاحتلال. اخيرا احس السياسيون العراقيون المتحمسون للاتفاق بان المشكلة هي في اللسان لا في حبر الاتفاق نفسه. اقترحوا تسميته «اتفاق لسحب القوات الاميركية من العراق»، وبدل تكرار التاريخ 2011 كموعد للانسحاب لأنه يبدو في العقل العادي بعيد وطويل جدا، صار يقال انه اتفاق من 36 شهرا فقط حتى تهدأ النفوس. اما الاتفاق فهو الاتفاق والموعد هو الموعد.

وهي تصويبات جيدة ترضي النفسية العراقية وتوصل الطرفين الى حل جيد. جيد لانه يضمن خروج الاميركيين من العراق في زمن محدد، ويخرج العراق من البند السابع، ويحول دون انسحاب اميركي مفاجئ الذي قد يتسبب في انهيار النظام، ووقوع حروب اهلية اعظم خطرا مما شهده العراقيون في زمن الفوضى الماضية. وهي بالفعل اتفاقية انسحاب اكثر من كونها معاهدة بقاء، لان ثلاث سنوات في الحسابات الاقليمية لا تكفي الاميركيين لبناء ترسانة ثم التخلي عنها. وقد يتساءل اذا لماذا الاصرار على اتفاق ملزم؟ السبب ان الوجود العسكري الاميركي مرخص له بقرار من الامم المتحدة ينتهي بنهاية العام الحالي، وعلى الاميركيين الانسحاب ان يجدد او يتم تنظيم وجودهم، عفوا خروجهم، خلال الاسابيع القليلة المتبقية. ولو انسحبوا ستخرج التنظيمات المتطرفة الشيعية والسنية والاجنبية من جحورها، وتبدأ معارك علنية في الشوارع وسينهار النظام السياسي الذي يحميه حاليا الاميركيون حيث لا تكفي القوات العراقية الجديدة لحماية بلد كبير الارجاء مستهدف من كل الزوايا.

الطرفان بعد مفاوضات طويلة توصلا الى اتفاق جيد نسبيا يضمن ويحدد جدولا للانسحاب مع بناء تدريجي للجيش والقوات الامنية المحلية. اما الاعتراضات فهي عمليا تعجيزية تريد اخراج الاميركيين لصالح فريقين في العراق، الاول الجماعة المحسوبة على ايران حيث ان الطرف الايراني هو الذي يقود الحملة المضادة للاتفاق علانية ورسميا. والفريق الثاني يمثل الذين هم خارج النظام الحالي، والمتضرر من الوضع القائم، مثل الحزب الصدري الشيعي وجبهة علماء المسلمين السنية. فمثلا المطالبة برفع الولاية القضائية عمليا تعني ان اي تبادل اطلاق النار في عمليات ميدانية، وهو امر يحدث يوميا، سيعني تلقائيا محاكمة القوة العسكرية، وهو طلب يستحيل ان تقبل به القيادة الاميركية. والاتفاقية المقترحة اكثر ايجابية مما هو معمول به اميركيا في اليابان او المانيا او قطر وغيرها من الدول التي للاميركيين فيها وجود عسكري. مع نفاد الوقت على الاميركيين الا يبقوا في العراق الا اذا كان هناك قبول بدورهم، وتفهم لطبيعة الاتفاق انه كما وصف حديثا انه اتفاق للانسحاب لا البقاء.

[email protected]