ريحانة الشفاء

TT

أصيب الدكتور عبد العزيز الخويطر (وأشقاؤه) في الطفولة بثلاثة أمراض: الجدري والملاريا والحصباء، التي كانت تقتل تلك الأيام، ولذلك سماها السعوديون الحصداء، لكثرة ما حصدت من أرواح طرية. وترافق هذه الأمراض حمى شديدة ويرافق الجدري والحصباء ما هو أسوأ، الحكة. وفي الطفولة لا يدرك المريض أنه إذا انهزم أمام إلحاح الجلد وحك دمائله المنتشرة، بقي مكان كل حكة ندب لا يزول. لذلك يحتاج الطفل المعاني إلى حارسين، واحد يردعه عن الضعف أمام الحكة وآخر يرطب حمته بالمياه في الليل والنهار.

إما حارسان، وإما أم. ولا حاجة إلى الصفات (حنون، رؤوم) فأنا مع الشاعر انسي الحاج الذي كتب قبل أسبوعين أن ثمة أسماء اكبر من النعوت وثمة بشر لا تحدهم صفة مهما اتسعت. عبد العزيز الخويطر كانت أمه إلى جانبه، تبرِّد الحمى، تدفع الحكة، تقوم على لزوميات المنزل، تعتني بوالده وعمته، وترسم في الأرجاء. ابتسامة الرضا والإيمان.

قبل سنوات قدم إلي الصديق عبد العزيز العبيكان مجموعة مؤلفات الخويطر، مع شرح مفصل لشخصيته وأدائه الحكومي الطويل. ولم تتسن لي معرفة الدكتور الخويطر إلا من خلال سمعته بين جيل الرواد الذين ساهموا في تأسيس الدولة. أما الشظف الأول فلكي نعرف كيف وكم كان يحسن قراءة مجلة «الفيصل» في عددها الأخير وفيه بضع رسائل كتبها الملك فيصل إلى الأب المؤسس والى بعض معاونيه هو. في إحداها، يطلب فيصل بن عبد العزيز من سيد الجزيرة مبلغ أربعين ريالا ثمنا لعباءة يريد شراءها بالاضطرار! أما في الرسائل إلى معاونيه فهو الذي يصرف لهم الهدايا: مائة قفة تمر. ومائتان.

في كتابه الجديد «النساء رياحين»، يبدو عبد العزيز الخويطر، الرجل الصارم، ابنا يستذكر أمه بسهولة دائمة ويكتب عنها بصعوبة فائقة. فكلما أمسك قلمه بكى واختلط الدمع بالحبر، أو دفعه وحّل مكانه. وإذ يتأمل الإنسان في قمة حياته ماذا فعل وماذا حقق وكيف كان دأبه وجهاده وتعبه، يرى أن لا شيء أمام تعب الأم وعناية الأب.

تنقلت عائلة الخويطر في بيوت مستأجرة كثيرة قبل أن يستقر بها الحال في مكة. وكانت الأم تنقل معها صناديق حديدية من مكان إلى مكان. وسوف يكتشف ذات يوم أن في هذه الصناديق كل أوراقه ودفاتره وأعماله المدرسية. وعليها سوف يبني مذكراته. وفي صدئها سوف يشم عطر الأمومة المستديم.