مطربة صناعة مصرية

TT

مهرجان جديد للأغنية بدأ في القاهرة أول نوفمبر 2008، على بركة الله، لا يهمنى في كل هذا المولد سوى أن أسمع غناء بعيدا عن عماشة الرموش الصناعية واستعراضات العري المتنوعة التي تقلل كثيرا من قيمة المطربات الفنانات بحق.

لا أتفق أبدا مع مقولة شائعة تنتهي برزع باب عليه لافتة: آخر.... المحترمين!

ليس هناك آخر في الخير والجمال. أخبرنا أداء سلاف فواخرجي، لما بدا لها جوهر أسمهان، أنها هي نفسها جوهرة بديعة في فن التمثيل، كما أخبرنا صوت «وعد»، وهي تؤدي تراث أسمهان الغنائي، أنها برهان ندية الحاضر الشاب للماضي الفذ.

سوف أبحث في هذا المهرجان عن موهبتين مطربتين صناعة مصرية هما: ريهام عبد الحكيم ومي فاروق. تغنيان تراث أم كلثوم، مختلفتان تماما عن أداء أم كلثوم وتستقل كل واحدة منهما عن زميلتها في تفسيرها اللحن والكلمات فلا تتشابهان ولا تستنسخان. كانت أم كلثوم تمقت من يحاكيها ويتوهم أنه نسخة منها وبالفعل تهاوت كل النسخ المتقنة منها والباهتة، ومثل أم كلثوم كان عبد الوهاب إلا أنه كان يقضي على أشباهه بالاحتضان حتى الإذبال، وهذا ما حدث لجلال حرب وسعد عبد الوهاب وعادل مأمون.

شاهدت المطربتين في مناسبات معدودة، نقلها المذياع المرئي، وأعجبني اقتصادهما في التزين مما أعطاهما رونقا وأناقة بعيدا عن البهرجة المعتادة التي تسلكها الغالبية، وإن لاحظت مؤخرا تغير الحال وأنا في غاية الأسف!

راقبت، منذ سنوات، ريهام عبد الحكيم حين قدموها في إطار أم كلثوم فلم تصبح، ولو للحظة، أم كلثوم. غنت قصائد غنتها أم كلثوم لكنها كانت على الدوام: الشابة ريهام عبد الحكيم. تأخذ اللحن بين راحتيها تستنشقه، وتتضلع به ثم ترسله تغريدا هفهافا يمتلئ بالحنو والمحبة كأنها تطعمه جمهورها. كيف يمتلئ وجهها بهذه الأمومة حاملا، مع ذلك، ملامح الطفولة؟ تنطق الحرف صحيحا فتخرج النغمات من فمها لوزا وفستقا وحلوى. تغرد القصيدة الصعبة بيسر وعذوبة، مبتسمة عيناها، مشيرة بكفيها تشرح المعنى وتؤكد على بلاغته ولا تكتم انحيازها له لغة وإيقاعا وموسيقى. فرحة بالغناء والشدو، سعيدة بالتواصل مع الناس. بريئة من غير جهل، ومسؤولة من غير هم، ومطمئنة من دون زهو، مستغرقة في الثقة بأن غناءها حلال، لا تتأثم به ولا يدفع مستمعيها إلى التأثم.

لست من زبائن المذياع المرئي، أشاهده بين فترات متباعدة، وحين أجدها أتوقف عن تقليب القنوات كأنها ما كنت أقصده، من دون قصد. شاهدتها ذات مرة تصدح بقصيدة شوقي «ولد الهدى» تبث التبتل في العطاء وتشيع السماحة نسيما صاعدا وجوالا.

جميل أنها بلا ضجيج إعلامي، الهدوء يليق بالأصيل. لا أعرف عنها شيئا ولا أريد أن أعرف. بالتقريب أستنتج أنها في شرخ شبابها وأن وجهها كما خلقه الله، وأنها ابنة بيت له باب تفتحه باحترام وتغلقه باحترام. مسنودة بثقة شعلة داخلية لا ترتكن على مخلوق.

لدينا هذه المطربة الشابة وزميلتها، مي فاروق، نعمة في سوق الغناء صناعة مصرية نفخر بها ونصد بها أبواب الشكوى. في زمن أفذاذ الغناء الماضي كان هناك هجص كثير، كان هناك مثلا «اطلع يا بتاع الفريكيكو»، فلماذا يفرغ زماننا من الهجص في كل شيء؟

مصر مليئة، في كل مناحيها، بالجوهر المكنون والمصقول، والمشكلة هي في الالتفاف حول التالف، والاحتفاء بالأوهام والمنكرات، ومداهنة من انتهت صلاحيتهم لحظة الإنتاج.

كتبت هذا المعنى سابقا وما زلت عليه لاحقا.