غدا يقرر الأميركيون سياساتهم تجاه العالم.. وتجاه أنفسهم

TT

غداً يقول الناخبون الأميركيون كلمتهم حيال من سيحكم العالم خلال السنوات الأربع المقبلة.

قد تنطوي عبارة «يحكم العالم» على مبالغة كبيرة بعض الشيء، لأن كثيرين باتوا على شك بقدرة واشنطن على الإمساك بمقدرات البشرية، ولا سيما بعدما «فقئ دمّل» هالة مناعتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، من أفغانستان والعراق، إلى وول ستريت، إلى العواصم المتمردة على الظل الثقيل... بعد هيمنة واشنطن الأحادية على العالم منذ 1989.

أصلاً المرشحان الرئاسيان الديمقراطي والجمهوري باراك أوباما وجون ماكين لا ينفيان أن أميركا اليوم في محنة، ويعِد كل منهما ـ بطريقته ـ بالعمل على إخراجها منها.

ولئن كان من عادة الديمقراطيين في العقود الأخيرة أن يُبرزوا الجوانب السلبية لمغامرات خصومهم تمهيداً لطرح أنفسهم «طبيباً مداوياً»، فالجديد أن الجمهوريين بشخص مرشحهم وفريقه ـ باستثناء رفيقة الدرب الانتخابي سارة بالين ـ لا ينفون وجود المحنة، وإن كانوا يرمونها بصورة غير مباشرة على ممارسات عهدٍ يحاولون بشتى الوسائل التملّص من تهمة التآلف العقائدي معه.

أميركا في محنة؟!

نعم، وفق مقاييس «فلسفة الثقة المطلقة بالمستقبل» التي غدت نهج حياة للأميركيين، لا وفق مقاييس دول «العالم الثالث» البائسة.

ونعم، أيضاً، في غياب العمق الفكري المأمول توافره في قوة عالمية هائلة الإمكانيات والنفوذ يفترض فيها أن تتفاعل مع قضايا العالم من منظور بانورامي واسع، فإذا ببعض نُخَبها السياسية تنظر إلى الكون بأسره من «ثقب مفتاح باب» صغير.

ونعم ثالثة، ما لم تتنبّه إلى حسابات الأرقام في نسيج مجتمعها، الذي هو المجتمع الأسرع نمواً سكانياً بين مجتمعات الدول الصناعية الغربية واليابان.

أميركا عندما تقرّر غداً في صناديق الاقتراع فإنها تقرّر الانحياز لخيار من خيارين بالكاد كانا على مثل ما هما عليه اليوم من تناقض... منذ مطلع القرن العشرين.

الخيار الأول يقوم على المحافظة على الثوابت الآيديولوجية التي سار نحوها الحزب الجمهوري بصورة مطّردة منذ نهاية الجدل الأساسي بين حزبي السلطة الكبيرين على التركيبة البنيوية للبلاد، وبخاصة لجهة حقوق الولايات ومدى قوة سلطة المركز إزاءها. ومما لا شك فيه أنه من العبث اعتبار الحزب الجمهوري اليوم «نسخة» عن الحزب الذي انتمى إليه وناضل في صفوفه إبراهام لنكولن وانتصر... في القرن التاسع عشر. بل ربما كان العكس صحيحاً لدى النظر إلى الاتجاه الحالي لأصوات ولايات الجنوب التي هزمها لنكولن في الحرب الأهلية، أو حرب الحفاظ على الاتحاد الأميركي. والشيء نفسه تقريباً ينطبق على الحزب الديمقراطي، وبالأخص، في ولايات الجنوب حيث يكاد يتلاشى بعدما احتكر «محافظوه» و«عنصريوه» السابقون السلطة المحلية عقوداً عديدة بعد تلك الحرب.

واليوم حتى عندما يقول جون ماكين إنه «ليس» جورج بوش «الإبن» ـ وهو صادق في قوله ـ فإن حجم الاختلاف بينهما أضيق بكثير من أن يشكل ابتعاداً عن «الثوابت» الاقتصادية والاجتماعية اليمينية المتطرفة التي اختصرتها خير اختصار «ظاهرة جو السبّاك».

في المقابل، الخيار الثاني، يرفع شعار «التغيير» من دون أن يخوض في تفاصيله الكاملة. والأمر الثابت أن المجتمع الأميركي مجتمع متغير أبداً. وبعدما كان العنصر الأبيض الأنكلوسكسوني يشكل غالبية عظمى من سكان البلاد فإن نسبته من مجموع السكان سارت في تضاؤل مستمر حتى اليوم.

ولأخذ فكرة بسيطة... شكّل المتحدّرون من الجزر البريطانية وحدها أكثر من 56 % من مجموع سكان الولايات الأميركية الأصلية عام 1790، يضاف إليهم نحو 19 % من شمال غربي أوروبا.

ثم تزايدت الهجرة وتنوّع المهاجرون، حتى بلغت نسبة مجمل البيض (الأنكلوسكسون والأوروبيون اللاتينيون والسلاف وآخرون) عام 1980 حوالي 74 %، انخفضت اليوم إلى نحو 57 % من مجموع سكان البلاد، وينتظر أن تهبط هذه النسبة إلى ما دون 53 % بحلول عام 2020. وفي المقابل ارتفعت نسبة الهسبانيكيين (لاتينيو القارة الأميركية) من 9 % فقط عام 1980 إلى 21 % اليوم مع توقع بلوغها 23.6 % عام 2020.

وفي حين ارتفعت نسبة السود من 15 % عام 1980 إلى 15.4 % اليوم مع توقع استمرارها على مستواها الحالي عام 2020، ثمة ارتفاع لافت في نسبة الآسيويين الذين كانوا يشكلون 2 % فقط من مجموع السكان عام 1980، لتتضاعف أكثر من مرتين إلى 4.1 % اليوم، ومع توقع بلوغها 4.7 % عام 2020.

هذه الأرقام ليست صمّاء، بل لها مضامين وتداعيات جغرافية واقتصادية وسياسية مؤثرة. ذلك أن أسرع الولايات الأميركية نمواً من حيث عدد السكان هي الولايات «الهسبانيكية ـ اللاتينية» وعلى رأسها كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا، التي انتقل إليها مركز الثقل السكاني ـ وبالتالي الانتخابي ـ من الولايات الشمالية الشرقية مثل نيويورك وبنسلفانيا ونيوجيرزي وماساتشوستس. كما ان الصوت اللاتيني يؤثر اليوم في عدد من الولايات المحورية المتأرجحة مثل فلوريدا وكولورادو وأريزونا.

وحول السود، فإن سلبية الأقلية السوداء إزاء المساهمة النشطة في الحياة السياسية أخذت تتلاشى منذ مطلع عقد الستينات من القرن الماضي مع حملة الحقوق المدنية في عهدي الرئيسين الديمقراطيين جون كينيدي وليندون جونسون. ومع أن مشاركتهم السياسية تعرّضت لتذبذب بين الراديكالية الغاضبة («الفهود السود» و«القوة السوداء») وإخفاقات بعض التجارب الرائدة (مثل فضيحة عمدة واشنطن السابق ماريون باري واللغط الذي طاول كارول موزلي براون سناتورة إيلينوي السابقة)، نجح السود في دخول الحلبة خلال العقود الأخيرة وتبوأوا مواقع مهمة وتحرّك ناشطوهم لإقناعهم بتسجيل أسمائهم في سجلات الاقتراع. واليوم نجد أن للصوت الأسود أهمية كبرى في العديد من الولايات الجنوبية، والصناعية الكبيرة أيضاً.

الأميركيون يجدون أنفسهم اليوم أمام هذين الخيارين. وسيكون قرارهم حاسماً، أمام خلفية الأزمة المالية العالمية، والارتباك المحيط بالمكانة العالمية لأميركا نتيجة إخفاقات الإدارة الحالية ونفور بعض الحلفاء الغربيين من مواقف الإدارة في قضايا مثل البيئة والمناخ والتجارة الحرة، وما إليها. وسيتوقف الكثير على ضوء خيارهم ليس فقط في العالم الواسع المحيط بأميركا والمتأثر بها، بل داخل البلاد أيضاً، وما له علاقة مباشرة وحميمية بانسجامها واستقرارها الداخلي.