خوفي على السودان

TT

يخاف كثيرون على السودان من مقبل الأيام.. ليس فقط بسبب السحب الداكنة التي تتجمع فوق أفقه السياسي، وملامح حرب تتهدده في ظل سباق صامت بين أمل الوحدة ومخاوف نزعات الانفصال مع التوتر الشديد الذي يتصاعد بين الشمال والجنوب، والحروب التي تنتشر كالنار في هشيم بلد المليون ميل.. وإنما الخوف كذلك بسبب الرحيل المتسارع لرجال تشربوا بحب هذا البلد الطيب وبكل سماحته وطيبته وبساطته. رجال مثلوا أروع قيمة سودانية وهي التسامح. كانوا حتى في خصومتهم السياسية يراعون القيم، ويحفظون الود، ويتمسكون بأن الخلاف السياسي لا يعني إلغاء الآخر أو القطيعة معه إنسانيا.

نشأنا ورأينا جيلا من السياسيين يتجادل داخل مقر البرلمان ويتعارك سياسيا، لكنه ما أن يغادر قاعات الاجتماعات وردهات البرلمان حتى ترى الأيدي تتشابك والضحكات تعلو في الطريق إلى لقاءات المنازل، وزيارات المجاملات الاجتماعية، وجلسات السمر في بيوت الأصدقاء من مختلف المشارب والتوجهات. تراهم يضحكون بصفاء وكأنهم أناس غير أولئك الذين كنت تراهم يتعاركون سياسيا قبل ساعات. وإذا برزت خصومات شخصية ترى الوسطاء و«الأجاويد» يتحركون بين الفرقاء حتى يزيلوا ما علق بالنفوس من شظايا معارك السياسة وخلافاتها.

ومع الرحيل المتواصل لرجالات ذلك الجيل، لا يملك المرء إلا أن يخاف على السودان، أو بالأصح على القيم الحقيقية التي ميزت أهل السودان. فهناك أجيال تنشأ اليوم في أجواء متشنجة ومتوترة، وفي ظل حروب شرسة تزرع الشكوك وترسخ التباغض وتنمي قيم الإلغاء للآخر.

تبرز كل هذه المخاوف والأحزان عندما يتلقى المرء خبرا كوفاة السيد أحمد الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة السابق ونائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي رحل فجأة في منزله بالإسكندرية، وقبله رحل الكاتب والصحافي المرموق محمد الحسن أحمد في مستشفى بلندن. وفي أحد مستشفيات لندن يرقد الآن الروائي والكاتب اللامع الطيب صالح وهو يصارع المرض، ويدعو له محبوه الكثيرون بالشفاء.

الذين عرفوا أحمد الميرغني سيذكرون دائما سماحته وتواضعه الجم، وفوق كل ذلك حبه الشديد لبلده وطبيعته التوافقية التي تأبى الصدام وتجنح إلى الحوار والسلم. كانت لي حوارات كثيرة معه، عندما كان يتصل مطمئنا أو يزور مجاملا، ولم أسمعه إلا مرددا لموقفه الذي لم يتزحزح عنه حول أهمية التوافق وحل المشاكل سلما حفاظا «على البلد» كما كان يقول دائما.

أما الذين عرفوا محمد الحسن أحمد سيذكرون دائما روحه السمحة وكرمه وبيته المفتوح للجميع حتى أصبحت دارته حيثما كان، في الخرطوم أو في لندن، مثل البرلمان في أيامه الزاهية. تجد الساسة من مختلف التوجهات، والشخصيات الثقافية والاقتصادية من مختلف التيارات. تعلو الأصوات في النقاشات، لكن تتخللها دائما الضحكات والقفشات.

قبل أحمد الميرغني ومحمد الحسن أحمد رحل كثيرون من رموز ذلك الجيل العظيم، ويصعب في هذه المساحة ذكرهم كلهم أو تعداد مآثرهم.. ومع رحيلهم يحس المرء بالحزن والانقباض والخوف على السودان وقيمه السمحة.

[email protected]