كذب الاقتصاديون ولو صدقوا؟!

TT

تغير العالم، وبعد أن كانت الحكمة هي ترجيح كذب «المنجمين» ولو صدقوا، فإن الأغلب هو أن خبراء الاقتصاد كذبوا حتي ولو صدقوا من وقت لآخر. وخلال العام الحالي تأرجح بنا العلماء والأساتذة وكتاب العرض والطلب في كل اتجاه حتى جرى السؤال عما إذا كان هناك علم للاقتصاد له قدرة ما على التحليل والتنبؤ وتقديم المعرفة. كان النصف الأول من العام هو شهور ارتفاع الأسعار وأزمات الغذاء والنفط التي هددت الدنيا بالاحتباس الحراري، وصراع الفقراء الذين سحقهم التضخم مع الأغنياء الذين لعبوا بأسعار السوق حتى وصل سعر برميل البترول إلى 147 دولارا، جعل صحف ومجلات تتحدث علي أغلفتها عن عالم يصل فيه النفط إلى 200 دولار للبرميل. أيامها جرت الحكومات ترفع الأجور، وتتسابق على من له الحق المقدس في الدفاع عن الفقراء، وخرج الاقتصاديون من كل حدب وصوب يتحدثون عن أسواق منفلتة بالتوسع وارتفاع الأسعار لأن الطلب على العرض لا نهاية له ولا حدود.

وفي النصف الثاني من العام، وربما مع شهر سبتمبر تجمعت غيوم أخرى، وقبل أن ينتهي الشهر العاشر من العام الثامن بعد بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد تدحرجت أسعار النفط بسرعة لم تحدث لها في تاريخها لكي تهبط عن 60 دولارا للبرميل، ولم يعتذر أحد من الاقتصاديين عن سعر المائتي دولار، كما لم يعتذروا عن عدم حدوث الارتفاعات الأخرى في أسعار الغذاء والسلع الأخرى وأخذوا مثلهم مثل كل المراقبين يقفون مشدوهين أمام انهيارات البورصة في كل أسواقها العالمية والمحلية وكأنها انهيارات أوراق الشجر زمن خريف بارد مبكر.

فشل الاقتصاديون ومعهم تنبؤاتهم وأسعارهم وجداولهم وأرقامهم لأنهم ببساطة لم يعودوا يعرفون ما الذي يتكلمون عنه على وجه التحديد. وفي وقت من الأوقات كانت حسابات الاقتصاد في العالم بسيطة، كان الناس يتبادلون السلع ويقايضونها، وكان العالم كله فقيرا بما لا يستحق حساب؛ وعندما ظهرت النقود في أشكال ذهب وفضة تنوعت السلع وظهرت الأسواق، وبات ممكنا أن يظهر آدم سميث لكي يتحدث عن ثروة الأمم ومعها باتت الندرة موضوعا للدراسة والمعرفة والخبرة والعلم والعلماء. ولكن الزمن تغير أكثر عندما جاءت النقود الورقية التي ظلت إيصالا بسلعة أو بخدمة حقيقية موجودة في الأسواق ومعها تضاعفت السلع والبضائع وازدهر حال علم الاقتصاد لأن النماذج باتت معقدة وهي تحاول أن تحسب مجريات التجارة وتحركات الاستثمار وصعود وهبوط البورصة والأوراق المالية ومعهم أصبحت الشراهة والطمع من الفضائل الإنسانية المحركة لأشكال من الاستهلاك لم يعرفها الملوك والأباطرة في التاريخ.

ومن الجائز أن عصر الاقتصاديين انتهى ساعة سقوط الاتحاد السوفيتي ليس لأن التاريخ انتهى كما قال فوكاياما ولكن لأن الاقتصاد لم يعد مفهوما؛ فقد اتسع العالم بأكثر من قدرة الخبراء والاقتصاديين وحتى الحكماء على الفهم. اتسع العالم لأنه بات ممكنا أولا قطعه ذهابا وإيابا عشرات المرات بالطائرات التي أصبحت أسرع وأجمل وحتى مطاراتها صارت أسواقا عالمية طائرة أو ثابتة على اليابس لا فرق. وجاءت الإنترنت لكي تجعل السفر في المكان بسرعة الضوء، ولم يجد ألان جرينسبان غضاضة في القول ان الإنترنت سوف يجعل أسواق العالم أكثر غني وأمنا من أي زمن مضي. وربما كان ذلك صحيحا في جانب منه، ولكن ما لم يكن متوقعا أن السرعة جعلت الملايين تصير مليارات، والمليارات تصبح تريليونات في سرعة مخيفة؛ وساعتها فقد الاقتصاديون كل قدرة على الحساب، وحتى عندما ظهرت قدرة القطعان المالية على نقل أسواق بكاملها ذات صباح في الأزمة الآسيوية لم يكن أحد من الاقتصاديين على استعداد لتأمل الحقيقة الصعبة أن الأسواق لم تعد أسواقا تعج بالسلع والبضائع والخدمات ـ وهم أصل الرأسمالية ـ وإنما أوراق افتراضية حاملة لأموال لا يعرف لها أصلا ولا فصلا، وعندما يكون ذلك كذلك فإن الاقتصادي لا بد أن يفقد وظيفته.

وحتى بداية القرن الجديد كانت العولمة على تردد الحديث عنها وعن نهاية التاريخ لم تكن أكثر من حالة بدائية للتفاعل كانت مرهقة، ولكنها كانت لا تزال كافية لنماذج الحساب؛ وعندما جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر منذرة بالتباطؤ الاقتصادي ربما تنفس الاقتصاديون الصعداء حيث تزدهر المهنة على أبواب الندرة، أما حيث تزيد الوفرة أو تنتهي العلاقة بين الورق والعرق فإن الاقتصادي لا يعرف تحديدا ما الذي يمكنه الحديث عنه. وعلى أي الأحوال كان على الاقتصاديين أن يجلسوا في مؤخرة الصورة لأن السياسيين ورجال الأمن كان عليهم شن الحرب على الإرهاب، ويبذرون الحرب في أفغانستان والعراق، وبعدها يكون الحصاد هلعا وخوفا وانتظارا. لقد تعقد العالم مرة أخرى لأنه جعل صناعة الأمن تتفوق على كل الصناعات الأخرى، وكان على الاقتصادي الذي حاول أن يحتفظ لنفسه بمكان في دنيا العولمة أن يخلي مكانه لرجل المخابرات، وجماعة جديدة تخصصت في صراع وحوار الحضارات حسب أشكال السوق الدولية المتاحة.

وبالتأكيد لم يكن التاريخ ساكنا، ولم يكن كارل ماركس مخطئا في كل الأوقات، حيث كانت ماكينة قوى الإنتاج والتكنولوجيا لا تتوقف، وخلال سنوات قليلة كانت التليفونات الجوالة وحدها قد دخلت في ثلاثة أجيال وتم العبور الهائل ما بين التليفون والتلفزيون والكومبيوتر في غمضة عين، وما علينا إلا مراجعة الزمن الذي استغرقه تطور التلغراف والتليفون بل وحتى انتقال التلفزيون من عالم الأبيض والأسود إلى العالم الملون، والعربات من الانتقال اليدوي للسرعات إلى الانتقال الذاتي، لكان ما تحقق في سنوات قليلة يحتاج قرنا على الأقل، وبات ممكنا لدول العالم أن تضاعف من ناتجها المحلي الإجمالي كل خمس سنوات بعد أن كان الأمر يستغرق مائة عام.

لقد أصبح العالم أكثر غنى، ولم يحدث في تاريخ العالم أن عرف رقم التريليون كما هو معروف الآن، ومع التريليون فقد الاقتصاديون قدرتهم على الحساب، ولم يعد هناك في النماذج الاقتصادية ما يكفي للجمع أو للطرح أو للضرب أو للقسمة بين حركة السلع والبضائع والخدمات والعمل والتكنولوجيا والأفكار والقيم وحتى حركة اللاشيء ممثلا في أوراق افتراضية تبيع سلعا مستقبلية، وديونا ممكنة، وكلاهما ليس وراءه وحدة للحساب وإنما محض أرقام ذاهبة وقادمة تظهرها لوحات ضخمة في البورصات والمطارات. وبقدر ما جرى من حيرة في ذلك كله لم يفقد الاقتصادي أعصابه أبدا، وحاول أن يضرب الودع ويفتح أوراق اللعب ويقرأ الفنجان، وببساطة كان يريد البقاء في سوق العمل الذي أعطاه أموالا طائلة، ومكانة فنية وسياسية في المنظمات والبنوك الدولية بل وقدرة على تقديم النصيحة وأحيانا الضغط على من لا يعلمون أسرار السوق أو الكون الجديدة.

الحقيقة المرة بالنسبة للاقتصادي اليوم أنه لم تعد لديه طريقة لحساب العناصر الأساسية للسوق حتى إذا جاز لنا أن نستعمل تعبير السوق ليعني ما كنا نقول عنه سوقا منذ سنوات، فكيف يكون السوق سوقا إذا كان البائع والمشتري قد انفصل بهما الحال حتى بات بعيدا بعد القارات عن بعضها، وقريبا قرب الحال الذي لا يزيد على نقرة إصبع على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. كيف بات البعد بعدا إلى هذا الحد، وكيف بات القرب قربا إلى هذا المدى، ومن الذي لديه قدرة بعد ذلك على تدريس علم الاقتصاد في الجامعات والمدارس بعد نهاية علم الاقتصاد ذاته؟!

هل في الأمر مبالغة؟ ربما، ففي أزمنة التغيير تطير العقول، وعندما يكون التغيير بسرعة الضوء فإن الزمان لا يصبح زمانا، بل أن المكان يختفي كله. وإذا كان في الأمر نصيحة فهي التروي فربما كان الأمر عاصفة سوف تنجلي، ولكن أثناءها لا تستمع كثيرا للاقتصاديين، واستفت قلبك، فربما كان هو أقصر الطرق إلى المعرفة التي هي أول السبل إلى رجاحة العقل وربما ـ من يعلم ـ الحكمة!!.