إما الاتفاقية وإما «الگعيدي»..!

TT

لا أطرح رأياً في الاتفاقية ـ ربما للتخفيف لم تسم معاهدة ـ المزمع قبولها أو رفضها، بين الولايات المتحدة الأمريكية الفيدرالية والعراق الفيدرالي أيضاً، بعد قراءة موادها الحادية والثلاثين المعدلة والأخيرة، حسب ما يراه الجانب الأمريكي. فرأيي وآراء أمثالي لا تُقدم ولا تؤخر، والقوة والغلبة على الأرض هي الفاعلة والفاصلة. إنما في هذا المقال أحاول التنبيه من الخيار بين أمرين هما: إما التوقيع على الاتفاقية ذات الثلاث سنوات أو القبول، خارج الإرادة، بما عُرف لدى أهل العراق بشخصية «الكَعيدي»، فالجهات العراقية متعددة ومتشذرة، ومنها، في حال عدم التوقيع، تُزوج الأمريكي ويُقيم بالدار بل والعصمة بيده.

والگعيدي لغير العراقيين، وعلى الأخص الجنوبيين منهم، الرجل الذي يتزوج ويُقيم في دار أهل الزوجة، وقد لا يشار إلى هذه الشخصية بالقبول، فبالبصرة يسمى مثلاً بـ«العبيجي»، وكثيراً ما يُذَكّر بأصله وفصله إذا ما حاول تجاوز حدوده، وهو الذي يترك الدار، لا الزوجة، في حالة نشوب خلاف ما. لكن في عوالم السياسة وما بين الدول من قوة وضعف يتحول «الگعيدي» إلى الآمر الناهي، يتزوج البلاد بأسرها، ولا تُقرُّ صغيرة وكبيرة إلا بمشورته، وخصوصاً إذا كان ذكياً وقوياً، ولا يبدو هناك أقوى وأذكى بل وأشرس، لمصالحها، من أمريكا. هذا والجميع يعرف ما تعنيه مهمة المندوب السامي، أو الحاكم المدني، أو قائد قوات الاحتلال، وما إلى ذلك من الوظائف في الديار المحتلة.

لندع أحاديث التباهي والتباكي، وننظر إلى واقع الأمور وما آلت إليه، بعد زحف القوات الأمريكية والبريطانية على العراق، وجعل الحرب دولية بقرار الأمم المتحدة، ودخول القصر الجمهوري ببغداد، بمشهد مثير، يجمع بين الحقيقة والخيال، ومَنْ فرح ومَنْ حزن، وتقرر للدولة الجديدة قانون أجازه الحاكم المدني الأمريكي، وبقدر قوة انتشار الجيوش انتشر المدنيون الأجانب لتنظيم الوزارات والدوائر الجديدة، بينما كان الخلاف بين العراقيين على تمثيل المذهب أو راتب عضو مجلس الحكم، وأخذت الرواتب والهبات تُدفع نقداً، لا صكوك ولا بنوك. وتدريجياً صار برلمان وتشكلت حكومة فرشت أمريكا البساط للتفاوض معها على مصير العلاقة بين الدولتين.

ولا نذهب بالتباهي بعيداً، فليس هناك من ضغط جماهيري أو سياسي فعال انتجته تلك اللحظة ليدفع الولايات المتحدة إلى التفكير بعقد اتفاقية بدلاً من الاحتلال المباشر، فالقتل استشرى بالعراقيين فرادى وجملة، وربما فاق عدد المقتولين المليون، والكل يخشى الإبادة بعد الجلاء الأمريكي.

أما الحرب مع القاعدة فهي جزء من الحرب الأمريكية الراهنة والمتواصلة، مثلما تسميها، على الإرهاب، ولم تخل الاتفاقية نفسها من تشخيص ذلك، والتعاون الأمريكي العراقي المستقبلي في هذا الصدد.

من جانب آخر، لم تأت أمريكا وتسقط نظام صدام حسين لأجل العراقيين، ولا لأجل النفط، مثلما يُشاع، فهو بين يديها بوجود النظام السابق، إذا قبلت بالتفاوض والموادعة، إنما الغرض أوسع من هذا بكثير، هو تغيير وجه المنطقة، لكن الأخطاء تكاثرت وغبارها حجب الرؤية إلى تحقيق تلك الغاية.

ومَنْ يدري فالأماني ما زالت قائمة، والجيوش ها هي جاهزة مجهزة. حقيقة، أن إسقاط النظام العراقي، عوضاً عن القوى التي حلت محله في السلطة، يبقى ديناً في الرقاب. ومَنْ أشار إلى الأمريكان بالمحررين، حسب واقع الحال، كان صادقاً مع نفسه، معترفاً بالجميل علانية، أما الذي يتحدث عن الوطنية بهذا التباهي فكان عليه تحديد العلاقة مع الأمريكان من قبل إنجاز المهمة، وعدم التعاون معهم في ما بعد، لا بعد زحف الجيوش، وما بذلته من دماء وأموال فلكية الأرقام، ودقت أوتادها في العمق العراقي، ويأتي الآن ويعلن عن عدم قبول الاتفاقية، وهي أقل ما يُرضي الأمريكان، أو وصفها بالعار والشنار، أو هي تهديد لدولة مجاورة.

عموماً، هناك خياران لا ثالث لهما: إما توقيع الاتفاقية، والعراق بحاجة لها، حسب ما هو معلن فيها: لحماية، وتأسيس، وتخفيف وزر الديون المتراكمة، وإما القبول بـ«الگعيدي» الأمريكي عسكرياً ومدنياً، يستولي على الدار وما فيها، لا يحده اتفاق ولا يرده وثاق، والأيدي عاجزة عمّا تصبُ إليه النفوس.

ولا نغالي بقــوة الجماهير وانفعالاتها في المظاهرات، فهي بعد ما حصل، من حروب وحصار وفِرقة طائفية إلى حد سفك الدماء، غدت متصادمة بعضها بعضاً. يمكن الذهاب بعيداً في معارضة الاتفاقية لو كانت البلاد يجمعها جامــع، إلا أنها كما نرى ونسمع تجزرت إلى جزر متنافرة، والعديد من الشوائك حسمت، حسب واقع الحال، بالاضطرار لا الاختيار، والجمــاهير المعول عليها تغالب مصائرها..!

[email protected]