هكذا وظفت دمشق حادثة «البوكمال» لمغازلة الإدارة الجديدة

TT

أسرار كثيرة ستكشفها الأيام بالنسبة لعملية «البوكمال» الأخيرة، ولعل أهم هذه الأسرار التي تم كشفها حتى الآن هو أن هذه الغارة، كما قالت صحيفة الـ«صنداي تايْمز» في عدد يوم الأحد الماضي، جرى تنفيذها بالاتفاق المسبق مع دمشق عبر قناة مخابراتية خلفية، وأن رد الفعل السوري الغاضب سببه أن هذا الهجوم تجاوز الحدود المتفق عليها، إذْ بدل أن يجري بسلاسة وهدوء تم بأسلوب أميركي صاخب كالمعتاد، وتسبب في قتل بعض المدنيين السوريين الذين كانوا موجودين في موقع استهداف قيادي عراقي في تنظيم القاعدة اسمه «أبو غادية» .

وأغلب الظن بل المؤكد أن دمشق لجأت إلى كل هذا التصعيد وإحداث كل هذه الضجة من قبيل استغلال ما حدث، سواءً كان قد تم بالاتفاق المسبق معها كما قالت الـ«صنداي تايْمز» أم لا، لتوجيه رسالة حسن نوايا إلى الإدارة الأميركية الجديدة لمغازلتها وإشعارها بأن ردة الفعل على هذه الغارة لا تستهدف الولايات المتحدة كدولة وإنما تستهدف إدارة الرئيس جورج بوش المغادرة.

والدليل على هذا أن دمشق حصرت غضبتها «المـُضرية» وحصرت هجومها وشتائمها بما سمته «بعض الجهات» في الإدارة الأميركية الحالية، وهذا معناه أنها حرصت حرصاً شديداً على عدم التعميم كي لا يُفهم رد فعلها هذا على أنه ضد الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه جون ماكين الذي كان في ذروة مواجهاته الانتخابية مع الديموقراطيين والذي كان هناك احتمال بأنه قد يفوز بهذه الانتخابات التي كانت التقديرات تشير إلى أن نتائجها قد تأتي خلافاً لكل التقديرات وكل استطلاعات الرأي التي بقيت تضع باراك أوباما في المقدمة وأنه هو الذي سيكسب هذه المعركة.

وحقيقة أن مراهنات سوريا على الإدارة الأميركية الجديدة، وإرسال رسائل حسن نوايا مسبقة إليها، كانت قد بدأت قبل غارة «البوكمال» بفترة طويلة، ولعل ما تجب الإشارة إليه في هذا المجال هو أن أكثر من مسؤول سوري كان قد قال وأكثر من مرة خلال مفاوضات اسطنبول غير المباشرة مع الإسرائيليين إن دمشق ستترك مشاركة الأميركيين المباشرة في هذه المفاوضات إلى ما بعد الانتخابات «المقبلة» وإلى أن تأتي إدارة غير إدارة جورج بوش الراحلة.

حتى مع أنها تتحالف مع إيران منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي وحتى رغم تصنيف نفسها على أنها العمود الرئيسي لـ«فسطاط الممانعة والمقاومة»، الذي يضم أيضاً طهران وحركة «حماس» وحزب الله وبعض التنظيمات الطفْيلية والوهمية الفلسطينية واللبنانية، فإن سوريا بقيت تضع رِجْلا في «البُور» ورِجْلا في «الفلاحة» كما يقال، وبقيت ترفع الصوت عالياً ضد الولايات المتحدة وكل هذا بينما هي تمد لها يد التقارب في الخفاء وفي بعض الأحياء في العلن وهذا ما جاءت معلومات الـ«صنداي تايمز» حول التفاهم السوري ـ الأميركي على ضربة «البوكمال» لتؤكده وتثبته.

لم «تقْطع» سوريا في أي يومٍ من الأيام الوصْل مع الولايات المتحدة الأميركية ولقد بقيت تتوفر معلومات مؤكدة حول استمرار القنوات مفتوحة بين الدولتين، ولعل ما لا يعرفه الذين ما زالوا يقيسون الأمور بمقاسات أيام صراع المعسكرات والحرب الباردة أن فتح الحدود السورية أمام «القاعدة» وأمام كل الذين ذهبوا إلى العراق بحجة مقاومة الغزو الأميركي، وبخاصة في الفترات الأولى، كان من قبيل المشاغبة التي هدفها التقرب من واشنطن، وكان بهدف إقناع الأميركيين بأن عليهم أن يضعوا أيديهم في أيدي السوريين إن هم أرادوا الاستقرار الذي يسعون إليه في الساحة العراقية.

وحتى بالنسبة للتحالف مع إيران فإن دمشق كانت قد بررته بالقول أكثر من مرة آخرها كانت بعد ضربة «البوكمال» وفي إطار ردِّ الفعل عليها بأن على الولايات المتحدة أن تستثمر هذا التحالف وأن تستفيد منه من خلال التنسيق مع سوريا للانفتاح على إيران ولـ«عقلنة» مواقفها وسياساتها، وهذا يشمل أيضاً موضوع القدرات النووية الإيرانية الذي هو أحد عوامل الخلاف وتسميم العلاقات بين واشنطن وطهران.

إن على الذين حاولوا ركوب موجة ردود الفعل على ضربة قرية سكرية في «البوكمال» والذهاب بعيداً في تصوير الأمور على أنها تأتي في إطار العودة لصراع عقود الحرب الباردة بين الغرب والشرق أن يعودوا لمراجعة الموقف السوري بعد هذه الضربة جيداً، فدمشق كانت حريصة ومنذ اللحظة الأولى على استبعاد التصعيد حتى حدود المواجهة العسكرية، بل هي كررت مراراً أنها تريد توضيحات أميركية أولا، وعراقية ثانيا، حول هذه الغارة وأسبابها ومسبباتها، وهنا وعندما تأتي الـ«صنداي تايمز» لتتحدث مستندة إلى مصادر أميركية، لم تسمها، ولكن قالت إنها مطلعة ومسؤولة، عن اتفاق سوري ـ أميركي مسبق على حدوث ما حدث، فإن هذا يفسر إلحاح دمشق على هذه التوضيحات التي تريدها من واشنطن والتي قد يكون المقصود بها معرفة أسباب وحيثيات خرق ما تم الاتفاق عليه.

لقد حاولت دمشق أن تكون جديِّة وجادة في ردِّ فعلها على هذه الضربة وهي حاولت أن تستغل ما حصل لاستدراج التفاف عربي رسمي وشعبي حولها ولكنها وفي كل الأحوال كانت حريصة على أن تبعث برسائل حسن نوايا إلى الإدارة الأميركية الجديدة، وكانت حريصة على أن تحصر غضبتها «ببعض الجهات» في الإدارة الأميركية «المغادرة»، وأكثر من هذا فإنها لم توفر أي جهد ممكن، لا تصريحاً ولا تلميحاً، للحؤول دون إغلاق أبواب السفارة الأميركية في العاصمة السورية بعد أن لوَّح الأميركيون بهذا، وهنا فإن ما يمكن الاستشهاد به هو أن نائب وزير الخارجية فيصل المقداد كان قد وصف في أحد التصريحات التي أطلقها إبان وصول تلك المعمعة إلى ذروتها بأن التفكير في إغلاق هذه السفارة هو «تصرف غبي» ويسيء إلى مصالح الولايات المتحدة الحيوية.

لقد قالت سوريا إنها أغلقت المعهد الثقافي الأميركي والمدرسة الأميركية في دمشق، ولكن الثابت أنها تركت هذه الخطوة خاضعة للمرونة والتراجع، وقالت سوريا إنها سحبت مفارزها الأمنية على الحدود مع العراق وثبت حتى الآن أن كل شيء بقي على ما كان عليه ولم يحدث أي تطور في هذا المجال، وكل هذا يعني إنْ هو قرئ قراءة جيدة أن السوريين رغم انزعاجهم من تجاوز الأميركيين حدود ما تم الاتفاق عليه بالنسبة لضربة «البوكمال» إلا أنهم أبقوا على الأمور دون خطوط التصعيد بكثير، بل وهم سعوا لأن يكون هذا الذي جرى فاتحة خيرٍ بينهم وبين الإدارة الأميركية الجديدة.

فهل أن حسابات الحقل يا ترى ستتطابق مع حسابات البيدر؟ وهل أن دمشق بشطارة التاجر الشامي ستستطيع إقامة علاقات، على أساس دور رئيسي لها في معادلة المنطقة، مع الإدارة الأميركية الجديدة..؟!

كل شيء جائز لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الإدارة الجديدة لن تستطيع إعطاء السوريين ما لم تعطه إليهم الإدارة الراحلة، إدارة جورج بوش، إذا لم تنجح دمشق في الامتحان وتجيب إجابة صريحة لا اعوجاج فيها على الأسئلة التي تطرحها إنْ بالنسبة للبنان أو بالنسبة للتحالف مع إيران أو بالنسبة للعراق والوضع الفلسطيني.. وأيضاً بالنسبة للحريات العامة وحقوق الإنسان في سوريا نفسها.