عالم ما بعد بوش

TT

أما وقد حطت الانتخابات الأميركية رحالها وانقشعت غيمة هذا الاستحقاق ـ الدولي بقدر ما هو أميركي ـ ليس من المبالغة بشيء الادعاء أن انتخابات الرئاسة الاميركية عام 2008، خلافا لأي انتخابات سبقتها، شكلت استحقاقين في استحقاق واحد، فقد كانت نهاية حقبة في تاريخ الولايات المتحدة .. وبداية حقبة أخرى معا.

ولاية جورج بوش الابن قد تدرجها كتب التاريخ يوما في خانة الولاية الاستثنائية في مسلسل تتالي العهود والوجوه على البيت الابيض في واشنطن. وأدبيات الحملة الانتخابية، سواء في خطب المرشح الجمهوري جون ماكين أم الديمقراطي باراك أوباما، أوحت بأن انتخابات عام 2008 تتعدى عملية انتقال البيت الابيض من رئيس الى رئيس أو من حزب الى حزب إلى نقلة نوعية في الحكم قد تمهد لفتح صفحة جديدة في «صورة» الولايات المتحدة.

لا جدال في ان ما بثّته ممارسات ادارة بوش من هواجس في أذهان العديد من الليبراليين الاميركيين ـ ناهيك بالأوروبيين ـ بات يستوجب تبديدا سريعا لقناعات، قد تترسخ مع الزمن، عن أن الرأسمالية الاميركية سقطت بانهيار «ليمان بروذرز» وأن العدالة الاميركية أفلست مع قيام معتقل غوانتانامو، وأن مصداقية واشنطن الدبلوماسية تبدّدت مع الذرائع «الرسمية» لغزو العراق.

على هذه الخلفية، وبعد ثماني سنوات من حكم جورج بوش و«النيو ـ محافظين» المحيطين به، لم يعد مقنعا ان يكتفي أي رئيس جديد في البيت الابيض بعملية «تجميلية» لصورة الولايات المتحدة في الخارج من دون أن يبدأ بتحسينها في الداخل ايضا، خصوصا بعد أن اهتزت الركيزتان الاساسيتان لهذه الصورة: الحرية الفردية للأميركي العادي والنظام الرأسمالي لبلاده.

على الصعيدين معا تعاني سمعة الولايات المتحدة من تآكل لم يغب ذكره عن أدبيات الحملة الانتخابية للمرشحين المتنافسين ـ وان بالتزام متفاوت حيال معالجته.

حملة الانتخابات الأخيرة، خلافا للحملات السابقة، لم تطرح أهمية التغيير في شخص الرئيس أو حتى حزب الرئيس بقدر ما أبرزت حاجة الولايات المتحدة إلى تغيير داخلي يبدأ بإعادة صياغة مفهومها للحريتين المهدورتين في عهد بوش: الحرية الفردية والحرية الاقتصادية. والوعد بتحقيق هذا التغيير لم يقتصر على الديمقراطي، أوباما، بل الجمهوري ايضا، ماكين، الذي وعد، في حال انتخابه، «بإيقاظ واشنطن وأخذ أميركا في اتجاه جديد».

حملة ماكين ـ أوباما كشفت ان الشارع السياسي الاميركي أصبح مهيأ، نفسيا، لتقبل عملية تصحيح للخلل الذي ألحقته ادارة بوش بالصورة الديمقراطية التي عليها بني «الحلم الاميركي». وظاهرة تململ المثقفين و«الانتليجنسيا» الاميركية من استخفاف إدارة بوش بحرياتهم الفردية والعامة ومن معاناتهم من تبعات حربه المفتوحة على «الارهاب» أحدث دليل على انفتاح الشارع على هذا التغيير، الأمر الذي يؤكده تنامي اعداد المحافظين «التائبين» والنازحين، فكريا وسياسيا، مما يمكن تسميته بـ«بوش لاند»، وعلى رأسهم منظر التيار، فرانسيس فوكوياما والاكاديمي القانوني دوغلاس كميش.

بعد ولاية بوش لم تعد الولايات المتحدة بحاجة الى إعادة اعتبار لسمعتها في الخارج بقدر ما هي بحاجة الى تنقيتها في الداخل أولا، بعد ان شوهتها عمليات التعذيب (الموثّقة) في العراق وروايات معتقل غوانتانامو والعديد من الممارسات «غير الاميركية»، ليس أقلها عمليات التنصت على الهاتف.

بالنسبة لحامل أعباء أكثر مناصب العالم مسؤولية، أي الرئاسة الاميركية، لم يعد كافيا إعادة تلميع صورة الولايات المتحدة في الخارج بتصريحات طنانة وأقوال منمقة لا تدعمها مبادرة داخلية جدية تعيد طمأنة الاميركيين أنفسهم الى التزام إدارتهم بالعملية الديمقراطية، قولا وممارسة... قبل تطمين العالم بأن التعاطي الاميركي مع الشأن الخارجي لن يسلك المسارات التفردية التي اعتادتها ادارة بوش وهزت علاقات واشنطن بحلفائها قبل غيرهم من دول العالم.

باختصار، إقناع العالم بأن الولايات المتحدة هي دولة الحريات الديمقراطية وحاميتها يبدأ بإعادة ثقة الأميركيين أنفسهم بمؤسسة الدولة بعد أن خيب بوش آمالهم فيها، الأمر الذي يحتاج الى صبر وأناة في الداخل.. وإلى مقدرة تسويقية استثنائية في الخارج.