أميركا: أمة واحدة.. ورؤيتان

TT

عندما بدأت آخر الحملات الانتخابية الخاصة بالرئاسة الأميركية منذ عامين بالتنافس في إطار الانتخابات التمهيدية، تمثلت القضية المحورية التي تركز حولها الاهتمامُ في التوجه الواجب اتباعه إزاء العراق. بيد أنه بحلول نهاية الحملة الانتخابية الثلاثاء الماضي، تلاشت قضية العراق، بينما استحوذت قضية جديدة على الاهتمام، ألا وهي التوجه الواجب اتخاذه حيال أميركا ذاتها. وعند بداية الحملات الانتخابية، تركزت النقاشات على أحداث السنوات الثماني الماضية، التي وصفها أعضاء الحزب الديمقراطي، والذين كانوا لا يزالون يعانون من وطأة هزيمتهم عام 2000، بأكثر فصول التاريخ الأميركي المعاصر سوادا. إلا أنه خلال الفترة الأخيرة من عمر الحملة الانتخابية الرئاسية، تحولت دفة النقاشات لتصب اهتمامها على المستقبل. وكانت تلك المرة الأولى منذ عام 1979 التي تتم دعوة الأميركيين لإعادة النظر في مكانة وطنهم على الساحة العالمية ودور الحكومة في تحديد أجندة البلاد في ظل مجتمع يقوم على احترام الحرية الفردية. وقد أسهمت الكثير من العوامل في إحداث هذا التحول، كان أولها أن النقاشات في إطار الحملات الانتخابية الرئاسية بدأت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. في تلك الفترة، سادت قناعة لدى غالبية الأميركيين بأن بلادهم تعرضت للهجوم بسبب القيم التي تمثلها وتساندها. في المقابل، رأت أقلية أن السبب الحقيقي وراء الهجمات يكمن في السياسات الخارجية «العدوانية» التي انتهجتها واشنطن. وفي الوقت الذي ادعى أعضاء المجموعة الأولى: «أننا نتعرض للهجوم لما نمثله»، أكدت المجموعة الثانية أن الهجوم كان بسبب: «ما نفعله». وفي الواقع، تمثل وجهتا النظر وجهين للعملة ذاتها، ذلك أنه بالنسبة لنا كأفراد وأمم، نحن نمثل ما نقوم به. ومثلما أوضح أرسطو من قبل، فإن الفعل هو مرآة للشخصية!

بحلول نهاية الحملات الانتخابية، كان الجميع تقريباً قد أدركوا هذه الحقيقة البسيطة. ولذا، تمكن المرشح الديمقراطي، باراك أوباما، من الدعوة إلى ما وصل حد «تغيير النظام»، بدلاً من مجرد إجراء تغييرات في السياسات المتبعة.

أما العامل الثاني الذي ساعد في تغيير بؤرة التركيز فتمثلت في استعداد كل من أوباما ومنافسه الجمهوري السيناتور جون ماكين لطرح أفكار لم يجرؤ أي مرشح آخر على الدفاع عنها منذ عام 1979 خوفاً من أن يصفه البعض بأنه مفرط في التمسك بالتوجهات الآيديولوجية. وجرت العادة في التنافسات على الرئاسة الأميركية أن يشرع المتنافسان الرئيسان من موقعين آيديولوجيين متقابلين، لينتهي بهما الحال عند موقفين شديدي التقارب في الوسط. بيد أنه هذه المرة تحديداً بدأ المرشحان السباق الرئاسي من عند نقطة الوسط، ثم انتهى بهما الحال عند طرفين مختلفين، حيث بدأ ماكين السباق وهو يحاول التأكيد على أنه يسلك نهجاً مستقلاً عن أقرانه في الحزب الجمهوري، لينتهي الحال به إلى أن يتحول لبطل لليمين المحافظ، خاصة بعد اختياره الحاكمة سارة بالين لتشاركه السباق الانتخابي كمرشحة لمنصب نائب الرئيس. أما أوباما الذي أبدى حرصه على ألا ينعته أحد بالليبرالي، أنهى حملته الانتخابية حاملاً لواء النموذج الأميركي للديمقراطية الاجتماعية.

بحلول نهاية الحملة الانتخابية، كان ماكين يدافع عن الصورة الشعبوية لأميركا باعتبارها أرض الأفراد الأحرار الذين يعمدون لاستغلال قدراتهم على الابتكار والعمل الجاد كي يحققوا نمواً اقتصادياً ورخاءً عاماً ببلادهم. وشعرت أميركا تلك بالفخر والثقة بنفسها وتولد لديها الاعتقاد بأنها دوماً على صواب. كما عملت على تعزيز العلاقات مع الدول الأخرى، خاصة في مجال التجارة الحرة. إلا أنها في الوقت ذاته حرصت على ألا يملي عليها أحد سياساتها الخارجية والأمنية. وإذا ما اقتضت الضرورة، كانت أميركا تلك على استعداد للمضي قدماً وحدها.

من ناحيته، طرح أوباما رؤيته الخاصة لأميركا الشعبوية. ومثل أوباما أميركا القائمة على التضامن ووحدة الصفوف بمختلف فئاتها. داخل أميركا تلك، اضطلعت الحكومة بدور محوري في تنظيم الاقتصاد وضمان وصول الحد الأدنى من الخدمات إلى جميع المواطنين، وإعادة توزيع الدخل لمساعدة الفئات الأكثر فقراً. وتحلى أوباما بالشجاعة الكافية لطرح نموذج سوق اجتماعي على النسق الأوروبي، وهو أمر لم يجرؤ أي مرشح ديمقراطي آخر على مجرد التلميح إليه منذ عهد ويليام بريان جننجز في القرن التاسع عشر. ويتمثل العامل الثالث الذي ساعد في إحداث تحول في بؤرة التركيز والاهتمام في التداعي الاقتصادي، حيث تسبب انهيار وول ستريت في إحداث هزة كبيرة في دعائم الشعور الأميركي بالثقة بالنفس. وربما يكون قد خالج أميركا الشك حيال كل شخص وكل شيء فيما مضى، لكنها لم تفقد قط الثقة بقدرة صناعتها المالية على تحقيق المعجزات. في الواقع، اعتمدت فكرة أنه كلما تضاءل حجم الحكومة كان ذلك أفضل على الاعتقاد بأن القطاع الخاص وحده قادر على «إدارة الأموال بحكمة».

وحتى العام السابق، كان القول بإمكانية تأميم الحكومة الأميركية لجزء ضخم من الصناعة المالية الأميركية وضخ ما يقرب من تريليون دولار في المصارف وشركات الرهن العقاري المتداعية أقرب للخيال منه إلى الواقع. أما الآن وقبل الانتخابات الرئاسية بأسابيع قليلة، رأى الأميركيون، الذين انتابهم الذعر، حكومتهم تبسط سيطرتها على حصة من الاقتصاد الوطني هي الأكبر في نوعها منذ ثلاثينات القرن العشرين. ومثلما علق أحد أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري، فإن الأمر برمته كان أشبه بـ: «انتقام الاشتراكية».

وساعدت هذه التجربة أوباما على صياغة حجته للدعوة لتدخل الحكومة بدرجة أكبر وممارستها قدرا أكبرَ من الإشراف التنظيمي ليس فقط في حالات الطوارئ، وإنما كذلك في الظروف العادية. في المقابل، تعهد ماكين بالعودة في أسرع وقت ممكن إلى النموذج الرأسمالي الأميركي الأصلي، حيث يقتصر دور الحكومة بصورة رئيسة على فرض القانون.

ويمكن القول إن أوباما يعتبر أكثر المرشحين الرئاسيين ميلاً للتوجهات اليسارية من كلا الحزبين الرئيسيين بالبلاد، الديمقراطي والجمهوري، منذ مشاركة الديمقراطيين في السباق الرئاسي من خلال السيناتور جورج مكجفرن عام 1972. وتسلط مسألة عدم اعتراض ملايين الأميركيين على هذا الأمر الضوءَ على حجم التغيير الذي طرأ على أميركا.

ولم تسفر محاولات إثارة ضجة كبرى حول ارتباط أوباما بأشخاص متطرفين في شبابه سوى عن نتائج هزيلة، وكذلك كان الحال مع مسألة تميزه بخلفية إسلامية وحمله اسما عربيا، حيث لم تنجح في تقويض الثقة فيه. على الجانب الآخر، منيت أيضاً محاولات تصوير ماكين وزوجته كأثرياء لا يدركون حجم معاناة الفقراء بالفشل. وبالمثل، أخفقت الحملة التي حاولت النيل من شخصية الحاكمة بالين. وبعيداً عن الجوانب الشخصية للمرشحين، أبقى المواطنون اهتمامهم منصباً على نمط أميركا الذي يأملون في رؤيته خلال السنوات الأربع القادمة.

لقد دفعت الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2008 الولايات المتحدة للاقتراب أكثر من النموذج الأوروبي الغربي من الديمقراطية، حيث يمكن التمييز بسهولة بين معسكرين يميني ويساري، مما يمنح الناخبين بدائل واضحة للاختيار من بينها. لذا، تستحق هذه الحملة لقب «تاريخية».