عاش الرئيس

TT

تحدوني في هذه المرحلة من القرار الوطني الكثيرُ من المخاوف بشأن الرئيس المقبل. فمن المحتمل أن يطلق فوزه العنانَ لكونغرس ديمقراطي آيديولوجي يرغب في الانتقام. وعلى امتداد الحملة الانتخابية الطويلة، بدا باراك أوباما عميق التفكير، ولكنه في بعض الأحيان كان مترددا وغير متأكد من اتجاهاته. ويتمسك بليبرالية لا ترى أن هناك حاجة إلى الإبداع. وعلى إثر الذعر المالي الذي قوض من سطوة كافة الجمهوريين على نحو كبير، حصل أوباما على فوز يعد الأكثر خطورة. لقد حصل على تفويض بالتغيير، لكن ليس للأفكار. وفي الواقع، فإنه تفويض دون معنى واضح.

بيد أن الانتخابات الرئاسية ليست مجرد اختيار سياسي، حيث إنها خط أخلاقي فاصل، وتقوم ليس فقط على انتصار الأغلبية، وإنما كذلك على نقل الشرعية التي تخضع لها الأقلية أيضاً. وفي واقع الأمر، فإن هذه الشرعية هي واحدة من القضايا التي لم تحظ بقدر مناسب من النقاش بعد في إطار النقاشات السياسية المعاصرة. ويمكن القول إن الشرعية أشبه ما تكون بسحر ديمقراطي يحول الأصوات إلى سلطة. ولا تتطلب هذه الشرعية اتفاقاً سياسياً، وإنما تنطوي على احترام وطني لآليات عمل الحكومة وعزم على احترام الرئيس تقديراً للمنصب الذي يتولاه. وخلال العقود القليلة السابقة، بدا أن سحر هذه الشرعية بدأ يخبو، فعلى سبيل المثال، أقدم معارضو الرئيس بيل كلينتون على تحويل خلافاتهم معه (وأخطائه البشرية) إلى هجوم على سلطته، بل تحول البعض إلى طرح نظريات مؤامرة منافية للعقل، بينها اتهامات بالقتل لأسباب سياسية. وبعد إعادة انتخاب الرئيس بوش، شرعت عناصر من تيار اليسار في شن هجوم ضد شرعيته، وبدأوا في الحديث حول سحب الثقة منه، في الوقت الذي عمدوا فيه إلى تكرار نظريات مخبولة حول ممارسته الخداع واقترافه الجرائم.

وبعد فترة يمكن وصفها بشهر العسل، من المحتمل أن يكتشف الرئيس الجديد تنامي حدة مثل هذا النمط من المعارضة المريرة. والملاحظ أنه نظراً للاستقطاب الأيديولوجي الذي تمارسه قنوات الكابل التلفزيونية والبرامج الإذاعية وشبكة الانترنت، بات من المحتمل استقاء الأميركيين معلوماتهم من مصادر شديدة الانحياز لحزب بعينه. وبات باستطاعة الكثير من الأميركيين، إذا ما اختاروا ذلك، العيش في عالم أيديولوجي من نسج خيالهم، بحيث ينظرون إلى أي شخص خارج حدود هذا العالم باعتباره أبلهَ أو مجرماً، وللأسف سيجدون الكثيرين ممن يشيدون بهذا التطرف. من ناحيتهم، أتقن الليبراليون آليات الازدراء تلك على امتداد الأعوام القليلة السابقة. وبالنظر إلى الاستفزازات القائمة الآن، فمن المحتمل أن يجابه الرئيس الجديد الأسلوبَ ذاته.

وربما تهيمن على سنوات الرئاسة الأولى لأوباما قضية الكساد الاقتصادي والتحركات الإيرانية السريعة باتجاه التسلح. وقد تبدي بعض العناصر المحافظة سعادتها حيال القضايا الصعبة التي سيتعين على أوباما النضال في مواجهتها، بينما سيلجأ آخرون إلى نسج نظريات المؤامرة حول خلفية أوباما وعلاقاته. وسيكون من السهل إلقاء اللوم فيما يتعلق بأي تحديات ناشئة على أخطاء وإخفاقات رئيس شاب يفتقر إلى الخبرة.

من جانبي، أتذكر جيداً شعور النشاط والأمل الذي يسود الأيام الأولى في أعقاب إحراز نصر انتخابي رئاسي. لقد تصادف وجودي داخل مكتب روزفلت في يناير (كانون الثاني) 2001 في اللحظة التي كان يتم خلالها نقل صورة تيدي روزفلت وهو يمتطي الحصان، لوضعها فوق المدفأة، حيث ظلت هناك طوال عهد حكم الإدارات الجمهورية. وأدرك تماماً أن أي شخص يراوده ذات الشعور بالأمل والمسؤولية الذي راودني حينذاك ستبقى عيناه متعلقتين عند نقل صورة فرانكلين روزفلت.

وفي الواقع، فإن الدخول للعمل في البيت البيض يصاحبه اكتساب حس تاريخي قوي وشعور بالغ بالمسؤولية، حيث يساعد ذلك على إعطاء المرء القدرة على تقييم الخيارات المتعارضة التي واجهها الآخرون ـ والدور القوي للتاريخ في إحباط الخطط المثلى. ويصبح من السهل إدراك حقيقة التحديات التي جابهها رئيس ما، في الوقت الذي تزداد فيه صعوبة التشكيك في دوافعه. وفي الحقيقة، أعتقد أن أيَّ رئيس ـ وفريق العمل الذي يستعين به ـ يشعر بالواجب تجاه خدمة مصلحة وطنية واحدة. وفي نهاية الأمر، ينبغي أن نأمل جميعاً في أن ينجح رؤساؤنا، لا أن يفشلوا كي نرضي رغبتنا في الانتقام أو التشفي. وينبغي أن تكون رئاسة أوباما ـ على وجه التحديد ـ مصدراً للفخر، حتى لمن لا يشاركون أولوياته. إن أميركياً من أصول أفريقية سيؤدي القسمَ من داخل ذات مجمع المكاتب التي شهدت بيع العبيد. وسينام في منزل شارك العبيد في بنائه، بالقرب من غرفة المكتب الذي شهد توقيع أبرهام لنكولن إعلان تحرير العبيد بعزمٍ وثباتٍ. وسيستضيف أوباما ضيوفه في القاعة ذاتها التي شهدت حفل العشاء الذي أقامه تيدي روزفلت عام 1901 لأول أميركي من أصول إفريقية يتم استقباله كضيف في البيت الأبيض. كما سيتولى قيادة مؤسسة عسكرية لم يتم دمج أصحاب البشرة السمراء بها رسمياً إلا عام 1948.

أعتقد أنه سيكون لدي الكثير من الانتقادات القوية للإدارة الجديدة، التي ربما أبدأ في توجيهها قريباً. لكن اليوم لدي رسالة واحدة لأوباما، الذي سيصبح رئيسنا القادم: عاش الرئيس.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»