كينيدي الأسود في البيت الأبيض

TT

أنهى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما خطابه الأول بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية بالحديث عن تلك العجوز السوداء آنا نكسون كوبر (106 سنوات) التي صوتت له في أتلانتا، وهي المتحدرة من الجيل الذي ولد مباشرة بعد نهاية عهد العبودية، في لحظة كانت ممنوعة من التصويت لسببين هما كونها امرأة وكونها سوداء.

يرمز اوباما في هذه اللفتة للتحول الجوهري الذي عرفته الولايات المتحدة، التي خرجت نهائيا من حربها الأهلية الطويلة بوصول أول رئيس اسود لسدة الحكم، وطوت ثماني سنوات عجاف من التعبئة القلقة والخوف في عهد الرئيس اليميني المحافظ المنتهية ولايته.

ومع ذلك يخطئ من يعتبر اوباما مرشح السود المضطهدين، فقوته الأساسية تكمن في خروجه من سجن الهوية الخصوصية، وقدرته على شحذ الحلم الأمريكي الذي هو موضوعه الأثير في خطابه الانتخابي المليء بالرموز التاريخية والاستشهادات من أقوال الآباء المؤسسين. فالرجل الذي ولد في ولاية اوهايو التي لم تنضم للاتحاد الأمريكي إلا سنتين قبل ميلاده، ولم يقم في بلاده إلا عندما كان في سن التاسعة عشرة، هو أكثر رؤساء أمريكا كسموبوليتية، بدمائه الهجينة، وجذوره الإفريقية المسلمة، ونشأته الآسيوية في اندونيسيا، ومع ذلك لا احد يرمز لمرونة الحلم الأمريكي وإشعاعه مثل اوباما.

وهو في هذا البعد يشبه جون كينيدي الذي كان وصوله للسلطة محطة فاصلة في التاريخ السياسي الأمريكي. والواقع ان بين الرجلين نقاط تماثل عديدة: كلاهما تخرج من هارفارد بعد دراسة ناجحة، يتحدران من وسط عائلي متواضع، يتشابهان في الجاذبية الشديدة المتولدة عن سحر الشباب والتألق الفكري والخطابة السهلة.

واذا كان الشارع الأمريكي اكتشف كينيدي لأول مرة خلال مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 1956، فانه اكتشف اوباما الذي كان سيناتورا محليا مغمورا خلال نفس المناسبة عام 2004. تميز الرجلان بالكتب التي ألفاها، فاشتهر كينيدي بكتابه «ملامح الرجال الشجعان»، وعرف اوباما بكتابيه الهامين: «أحلام أبي» الذي هو نمط من السيرة الذاتية والتأمل الحر، و«جرأة الأمل» الذي حمله مشروعه السياسي ـ الانتخابي..

وعلى الرغم من اختلاف السياق التاريخي، فان الفكر السياسي للرجلين يلتقي في بعض الثوابت الرئيسية، كالقول بالتعددية والشراكة في العلاقات الدولية والإيمان بالدور المركزي للولايات المتحدة في النظام الدولي بصفتها حاضنة القيم الليبرالية وضامنة الاستقرار العالمي.

وإذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية لا تتغير إلا قليلا بتغير الإدارات الحاكمة، إلا انه من المتوقع أن يترك اوباما بصماته الخاصة على شكل وطبيعة أداء الدبلوماسية الأمريكية في اتجاهين بارزين على الأقل هما:

ـ إعادة الثقة الى العلاقات الأمريكية مع بلدان العالم الأخرى وفي مقدمتها الفضاء الأوروبي الحليف وروسيا المتمردة وتفعيل المؤسسات الدولية التي تضررت كثيرا من السياسة الأحادية والتدخل الانفرادي للإدارة الحالية. وليس من غريب الصدفة أن يكون اوباما مرشح العالم الخارجي، كما أثبتت استطلاعات الرأي في العديد من البلدان.

ـ الرجوع لخط الواقعية الولسونية الذي هو نمط من المثالية الايجابية (نشر قيم الحرية وتأكيد رسالة التفوق الأمريكي في العالم) ضمن ضوابط وإمكانات اللعبة الدولية واعتبارات المصالح الحيوية للولايات المتحدة. وقد رسم كلينتون هذا المسلك بعد نهاية الحرب الباردة، ومن المنتظر ان يدفعه الرئيس الجديد الذي لا يخفي تعاطفه مع السياسة الخارجية لسلفه الديمقراطي.

لا ينفك اوباما في خطابه السياسي يبشر بالأمل مقابل هاجس الرعب الذي عبأ الرئيس بوش الشعب الأمريكي حوله، مترصدا مخاطر العنف الأعمى المدمر، وموجها جيوش بلاده في حروب استباقية خارجية دامية لإكمال الحداد على زلزال 11 سبتمبر 2001 الذي كان لحظة مأساوية استثنائية طبعت سنوات «الرئيس المحارب».

ولقد سحر اوباما الأمريكيين بخطابه المتفائل الرافض لتخييرهم بين الحرية والأمن، الريادة الدولية والعزلة، الانتعاش الاقتصادي والهشاشة الاجتماعية. وهو في هذه النقطة أيضا يشبه جون كينيدي الذي اخرج الأمريكيين من أحزان الحرب العالمية الثانية التي طبعت المشهد السياسي طويلا. يذكر خطاب انتصار اوباما بخطاب كينيدي الافتتاحي الشهير الذي ألقاه عام 1961 (سنة ميلاد الرئيس الجديد) مبشرا فيه بأمريكا الجديدة القوية والمرحة، في مقابل أمريكا المحاربة المهددة. في مكتب السيناتور اوباما صورة مكبرة لسلفه ـ النموذج كينيدي، الذي يحلم بإكمال مشواره القصير الذي أوقفته رصاصة غامضة في مثل هذه الأيام قبل خمس وأربعين سنة.