عصر الرواد

TT

في الصحافة اساتذة غير مرئيين مثل الجندي المجهول في الجيش، هم من يسمون بـ «المخرجين». أي أولئك المبدعون الذين يولفون المحتوى في الشكل. ومهمة هؤلاء ان يضمنوا أناقة المظهر مهما كانت خلاعة الجوهر.

هذه الصناعة الراقية تأخرت في الوصول إلى الصحافة اللبنانية التي بكرت في الصدور. فقد كان المحرر هو الذي يفعل كل شيء، واحيانا يجمع الاحرف. أو كان يبدأ بجمع الاحرف وينتهي كبيرا للصحافيين ونقيبا لهم، مثل جبران تويني، مؤسس «النهار»، أو مثل ايليا ابو ماضي شاعر الرقة والفكر والسجايا.

كان للاخراج الصحافي رواد صدف انهم كانوا من ارومة طرابلسية واحدة في الخمسينات من القرن الماضي. كان شيخهم رأفت بحيري الذي تتلمذ على يده عصمت شنبور، الذي حول الاخراج من هواية الى لزوم ومن عمل اضافي الى حرفة كاملة. وقد تتلمذ عليه جيل او جيلان. وقلده كثيرون. وظل من الصعب تقليده في خلقه وفي مدى احترافه. كان ينظر الى كل شيء على انه جوهر يبحث عن شكل.

وكان يحلم بأن يحول طرابلس الى حديقة يرسم خطوطها بيديه الانيقتين، لكنهم سبقوه الى جعلها مقتلة. وعمد عصمت الى تحديث الخط العربي وجعله موائما للصحافة الحديثة. وحملت مجلتان، «الحوادث» و«المستقبل» الباريسية، توقيعه مدى الحياة.

كان مستقبليا بلا حدود. قبل ثلاثين عاما كان يخطط للشكل الصحافي المنطلق الذي اعتمدته مؤخرا في الكويت الزميلة «الجريدة» وكان مولعا بالطراز الالماني في الاخراج الصحافي، يأتي بـ «الفرانكفورتر الغماينة» او «سود دويتش تسايتونغ» ويعرضها علينا، رفاقه، لكي يدلنا كيف يجب، ان تكون عليه اليوميات.

واما المجلات فكان يخرجها تطريزا، سطرا.. سطرا وفقرة.. فقرة، قائلا: انه يجب ألا نكبد القارئ حتى يعرف بنفسه مداخل الكلام وتغير الفقرات. وكان يضع بين المعاني فواصل من زهر وزنابق كأنما يحلي النص. وكان ناقدا رائعا للنصوص. سوف اذكره بالكثير من الافتقاد.