مجنون عظمة!

TT

في كل مرة التقي فيها بصاحبي «المثقف» جدا أتذكر الحملة الضارية التي قادها الأديب العالمي تشيكوف على المثقفين، ونعتهم بالنرجسية والرياء والانتهازية، ومع أنني لا أؤمن برؤية تشيكوف للمثقفين، فرؤيته لا تمثل واقع الكثير من الذين عرفتهم، إلا أنني أراه صادقا على الأقل فيما ينطبق على صاحبي «المثقف»، فكل ما ذكره تشيكوف وما لم يذكره يتوفر في صاحبي، فهو نرجسي يعشق ذاته إلى الدرجة التي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، قراءاته كثروة البخيل يختزنها في الذاكرة، ويقايض بها في أحاديث المجالس، لكن لا شيء منها ينعكس على أحواله وسلوكياته، أما عن انتهازيته فحدث ولا حرج، فهو أشبه بـ «الجوكر» في ورقة «الكوتشينة» القابلة لأن تقش أي شيء، حتى إنه ليمكن أن يبيع قناعاته في متجر كل شيء بريال لو تأكد يقينا من وجود مشترين..

في مجالس المثقفين تجده يتحدث عن حقوق المرأة ومكانتها وأهمية دورها، ويقول العارفون ببواطن الأمور إن له إذا ما ولج عتبة الدار إلى الداخل وجها عبوسا يرتديه تسوده الكثير من تجاعيد التزمت والاستعلاء وضيق الأفق.. الثقافة بالنسبة له مجرد ظاهرة صوتية يبسطها على قارعة المقهى إذا ما التقى بمريديه، ثم يطويها في آخر اللقاء كما يطوي البائع الجوال بضاعته، ويمضي حاملا أثقالها..

لقامته المنتصبة درجات من الانحناء تتسم بالمرونة الشديدة، فهامته يمكن أن تسقط على صدره في لحظات «التكسب»، كما يمكن أن ترتمي خلف ظهره إذا ما أراد أن يمثل دور الأشم الشامخ القانع.. هو في الكثير من المواقف يذكرني بشحاذ حينا، الذي كان يذهب من صباح الكادحين يتسول رزقه في شـــوارع المدينة الفخمــــة، فإذا ما انطفأ النهار، وحل ليل المتعبين عاد إلى حيه الشـــعبي البسيـــط منتصب القامة، منتفخ الأوداج، ينفث دخـــان سيجارته الفاخرة في وجوه المارة، يتبعه خادمه الأمين، الذي ظل كل ما بقي له من الدنيا بعد فرار الأقربين من جنون عظمته..

صاحبي هذا مات ـ يرحمه الله ـ في دواخلي حيا منذ عدة أعوام، فإذا ابتلاك الله بمثله فاصبر، واحتسب، وانتظر، لعل الله يعوضك صحبة الأصحاء والأخيار.

[email protected]