حوار الأديان

TT

اتخذ الغرب من مثال مريع لكي يبني عليه الصورة الحديثة للإسلام، أو ليعيد بناء صورة قديمة رسمها خلال قرون الصراع والفتوحات وما أحلَّ من هزائم بالغربيين في الشرق، خصوصاً في القدس. ولم تكن «غزوة نيويورك» إلا عملا قامت به فرقة خارجة على المؤسسة الإسلامية، متمردة عليها، يتزعمها رجل كان قد جُرد حتى من جنسيته، كدليل من موقف بلاده منه.

لكن الغرب الذي يُهيئ منذ عقود لمواجهة «صراع الحضارات» رأى في مقتلة نيويورك محرقة علنية تبرر له حملة أخرى على الشرق الإسلامي. وبدلا من أن يستشير جورج بوش مجلس الأمن القومي وضع التوراة تحت وسادته يقرأ في مراثيها وتنبؤاتها.

يطرح مؤتمر حوار الأديان في نيويورك المسألة الإسلامية المسيحية في جوهرها وفي أعماقها. وبدل اتخاذ مقتلة نيويورك نموذجا للبحث أو دليلا أو ظاهرة، لماذا لا يتخذ الفرقاء أطول تجربة في تعايش الأديان استمرت في الأندلس ثمانية قرون. في هذه الفترة كان المسلمون يناوشون جيرانهم في محاولة للتوسع، أما ضمن حدودهم فقد انتعشت الحركات الفكرية والآداب والعلوم والهندسة والزراعة، فيما كانت بقية أوروبا تغرق في الجهل. وقد قسا المسلمون على بعضهم بعضا في الصراع العباسي ـ الأموي، لكن إسالة الدماء في أوروبا وإمبراطورية شارلمان الواسعة لم تكن على الإطلاق أكثر رحمة. وقد امتد حكم شارلمان إلى بلاد المجر التي منها جاء المسيو نيكولا ساركوزي ليحكم فرنسا.

في نهاية الألفية الأولى كانت قرطبة تعد نحو 90 ألف نسمة، أي أكبر ثلاثة أضعاف من أي مدينة في مملكة شارلمان. لقد أنشأ العرب المدن فيما ظلت أوروبا في القرى والحصون. وفي مدن الأندلس ازدهرت تعددية لا مثيل لها: مسلمون ومسيحيون ويهود وبربر وسلافيون وأقليات كثيرة شكلت أول انصهار طوعي في العالم. وقد خلا بلاط شارلمان من أي مطران أو حاخام، فيما كان في مدن الأندلس مطارنة وحاخامات. وأرسلت قرطبة مطرانا، سفيراً لها لدى القسطنطينية.

الزميل هاني نقشبندي وضع رواية بعنوان «سلاَّم»، يخلص فيها إلى أن المسلمين بدأوا الظلم عندما احتلوا الأندلس. لكن هذا يعني أنه لم يطلع على ما فعله الأوروبيون، ولا توقف عند تجربة الحكم في الأندلس، ولا عند معاني قصر الحمراء الذي حاول أن يقدم صورة فوتوغرافية له. فالمسألة أن الأندلس كانت تجربة تاريخية على صعيد العلاقات الإنسانية. ولم يكن مضطراً إلى كل هذه التخيلات ليصل إلى أن العرب هم الظالمون. لقد ظلم العرب أنفسهم وهزموا أنفسهم وإلا لعبروا «بلاط الشهداء» أو بواتييه إلى القارة برمتها. وربما لو أعاد القراءة مرة ثانية لكان أكثر رأفة بهم.