أوباما: القيمة الإنسانية.. وفرص التغيير وحدوده

TT

هذه هي (أمريكا الحقيقية) التي ظهرت في الرابع من نوفمبر عام 2008، والتي اختطفها ـ لأمد طويل ـ المجانين والعنصريون حتى كاد العالم كله يلعن أمريكا كلها بسببهم.. نعم. ظهرت أمريكا الحقيقية التي قرأناها ـ من قبل ـ في وثيقة الاستقلال الأمريكي. إذ قرأنا ـ مثلا ـ: «ان جميع البشر خلقوا متساوين، وان خالقهم حباهم بحقوق معينة غير قابلة للإسقاط أو التنازل عنها، منها: حق الحياة والحرية والسعادة».. أجل: «جميع البشر خلقوا متساوين»: ديك تشيني والقس جاكسون سواء.. باراك أوباما وجون ماكين سواء.. وبهذه (المساواة) صعد أوباما إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة، وهو منصب يمكنه من أن يرأس البيض كما يرأس السود وسائر الملونين.. ونحن نمتلئ ابتهاجا بانتصار هذه القيمة الإنسانية الجليلة: قيمة (المساواة).. نبتهج بها ـ أولا ـ لأنها تنبثق من مكنون الفطرة الإنسانية، ومن الرصيد الأخلاقي العظيم في التراث الإنساني، وهو تراث كافح الطغاة والعنصريون كفاحا طويلا ومقصودا لأجل كبته وطمسه.. ونبتهج بقيمة (المساواة) ـ ثانيا ـ لأنها قيمة مجّدها الإسلام وجلاّها وأصّلها: بالنص والتطبيق. فالناس كلهم مخلوقون من نفس واحدة بنص القرآن: «هو الذي أنشأكم من نفس واحدة». فالأصل واحد.. ومن الجهالة وانعدام العقل وفقدان الضمير: التمييز بين بشر أصلهم واحد.. صحيح أن هناك تفاوتا بين الناس في العلم والعمل والخلق، بيد أن هذه كلها أمور (كسبية) يكسبها الناس بجهدهم، ولا علاقة لهذا التفاوت الكسبي بـ (وحدة الأصل) وبالأرومة الجبلية الفطرية.. وصحيح ان البشر مختلفة ألوانهم. وهذا الاختلاف لا يجوز أن يكون ذريعة تفرقة وتفريق بين الناس.. لماذا؟.. لأن اختلاف الألوان البشرية دليل وآية على قدرة الله سبحانه وإبداعه ـ عز وجل ـ على (تنويع) البشر، (وتلوين) أبشارهم: «ومن آياته، خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين».. وكما أن اختلاف اللغات بين العرب والانجليز والفرنسيين والتايلانديين والكينيين والأتراك والأكراد الخ. لا يصح أن يكون أداة للتمييز العنصري، فكذلك اختلاف الألوان لا يصح أن يكون أداة للتمييز العنصري.. وفي مجال التطبيق: كان محو العنصرية قصدا مقصودا في عصر النبوة والخلافة الراشدة.. مثلا: احتفى رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أيما احتفاء ببلال بن رباح، وجعله الصادع والصادح بالأذان.. وحين عيّر أحد الأصحاب رجلا بأمه السوداء، واجهه النبي بالكلمة الناقضة للعنصرية بحسم: «أعيّرته بأمه. انك امرؤ فيك جاهلية».. ومن هذا القصد المقصود في محو العنصرية: قول عمر بن الخطاب: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا».. وسيده الآخر هو بلال بن رباح!!.. إن عمر بن الخطاب عربي قح، وقرشي خالص، ومع ذلك رضي بأن يكون بلال سيده، وأعلن ذلك ـ كما هو في صحيح البخاري ـ.. هاتان صورتان (علمية وعملية) من صور (المساواة) ومحو العنصرية في منهج الإسلام (وبديه أن الإسلام ليس مسؤولا عن عنصريات قبيحة مارسها عرب ومسلمون، كما أنه ليس مسؤولا عن نواقض النظافة التي تزحم مدائن المسلمين وقراهم ونجوعهم وأحياءهم)!.

هذا هو الاستقبال الفكري والسياسي الأول لنبأ صعود رجل غير أبيض إلى منصب رئاسة الجمهورية الأمريكية.

أما الاستقبال الفكري السياسي الثاني فقد كان ملؤه العجب من عالمنا البشري هذا.. العجب مم؟.. العجب من (الكسل الذهني والفكري) الذي أدمنه العالم.. فالكل ينتظر من أوباما أن يفعل كذا وكذا، وأن يغير أمريكا والعالم، وأن يأتي بما لم يأت به الأوائل والأواخر: في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والبنى الاجتماعية والحضارية.. وكان على هؤلاء (المنتظرين الكسالى) أن يخجلوا من أنفسهم، وأن يسألوها: وماذا لدينا نحن من رؤى ومشورات واجتهادات جديدة: نشارك بها أوباما وإدارته وبلده في صياغة واقع أقل سوءا، ومستقبل أكثر عقلانية وتوازنا: لأنفسنا وعالمنا؟.. في خطاب تتويجه رئيسا للولايات المتحدة قال قدوة أوباما ومثله الأعلى (جون كندي)..: «نحن مستعدون لمساعدة الآخرين، ولكن أقول: إنه يستحيل أن تساعد أمريكا من لا يستطيع أن يساعد نفسه».. ونضيف لمقولة كندي: اذا كان العالم محتاجا الى جهود أمريكا ـ في هذه الصورة أو تلك ـ، فإن أمريكا ذاتها محتاجة إلى العالم، بدليل: أن أحد أسباب الكوارث التي حلت بهذا البلد: سبب (اتكالية) العالم وسلبيته المميتة التي يعبر عنها لسان المقال أو الحال بمثل (أمريكا لا تنقصها الخبرة ولا الدراسة ولا الرؤية).. (أمريكا مهيأة لأن تنوب عن العالم في إيجاد البدائل).

والوضوح الفكري يقتضي القول بأن: الخوف الشديد ليس على أمريكا وهي تواجه أزمات مركبة. فالقوم هناك تنطوي جوانحهم على نزوع متجدد للتغيير بما يتضمنه ذلك من نقد صارم لأنفسهم، وتفتيش شجاع عن البدائل.. إنما الخوف الشديد على (المقلدين الكسالى) أو الجامدين المتحجرين الذين يصرون على تقليد أمريكا في الأشياء التي سئمها الأمريكان وعافوها وتحرروا منها.. الخوف الشديد على هؤلاء (الإمعات) الذين لا يشعرون ولا يبصرون ولا يعقلون ولا يعتبرون.

إن الأزمة المالية الاقتصادية الأمريكية ـ مثلا ـ يتطلب حلها (رؤى عالمية متعددة): في الفلسفات والأفكار والآليات:

أ ـ فالرأسمالية (نظام اقتصادي عالمي)، وليست نظاما اقتصاديا أمريكيا فقط.

ب ـ ان الاقتصاد الأمريكي متداخل جدا مع اقتصادات العالم: تبادلا تجاريا وودائع واستثمارا وعملة.

ج ـ ان للأزمة المالية الأمريكية أثرا على اقتصادات وماليات الدول الأخرى: في هذه الصورة أو تلك.

وهذه كلها ـ ونظائرها ـ موجبات للبحث عن (رؤى عالمية متعددة) لمواجهة هذه الأزمة ـ وهذه الرؤى من أعظم وأدق وأسرع ما تحتاجه الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما في العهد الجديد الذي خلف عهدا كان شعار رئيسه المفضل «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».. ويمط رأيه الفرد هذا الى السياسة والاقتصاد والحرب والثقافة والايديولوجيا الخ.

إن أمريكا بلد قوي بلا شك، ومن المحتمل أن يظل قويا إذا هو أحسن إدارة الأوراق المتنوعة التي بين يديه.. هذا صحيح.. وصحيح مثله: أن هذا البلد ليس هو (الفعال لما يريد)، فهذه الصفة لله وحده لا شريك له، وحين توهم سلف أوباما غير ذلك: خاب وخسر و(بهدل) بلده وأوردها موارد الأزمة المالية، وتراجع المكانة، وتشوه الصورة.

ولئن نزع أوباما منزع التغيير والتجديد والتنفس في مناخ أفضل: لبلده والعالم، فإن أمامه (فرصة نسبية) في هذا الاتجاه.. ومن مرجحات هذه الفرصة: الشعبية الكبيرة جدا التي يحظى بها في داخل أمريكا، وهي شعبية تمثل له سندا قويا في تحقيق برنامج (إنقاذ أمريكا) و(التطبيع مع العالم).. ومنها: تقبل العالم له، واستبشاره به، وهو تقبل عجيب نسبيا، لأن العالم لم ير ـ حتى الآن ـ من أوباما ما يطمئنه إلى سياساته، لكن سبب الاستبشار ـ في الغالب ـ هو الفرحة بزوال مَنْ سبب للعالم آلاما نفسية ومادية فظيعة.

على أن فرص أوباما في التغيير ليست (مطلقة)، بل هي محدودة: محدودة بـ (الارث السلبي الثقيل) الذي يتطلب جهدا ووقتا كبيرين في تخليص أمريكا من أغلاله.. ومحدودة بأنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم يعد العالم فراغا ومكانا لأمريكا وحدها، إذ برز ـ فيما بعد سقوط الاتحاد ـ منافسون جدد أقوياء. وهذا (متغير) ضخم وعميق يتطلب إدراكه: أن تكون أمريكا لاعبا رئيسيا قويا على المسرح العالمي، وليس (اللاعب الوحيد) مع ما يقتضيه ذلك من عقلانية وواقعية وتواضع ورفع شعار:(أمريكا تتقدم بتقدم العالم لا على أنقاضه).