وتحققت رؤية مارتين لوثر كينغ بعد 40 عاما

TT

انتخاب أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا سجل الرابع من نوفمبر 2008 كأحد أعظم أيام تاريخ البشرية في تقدمها البطيء (رغم أخطائها المدمرة) نحو الأرقى.

وكالتاسع من نوفمبر 1989 لحظة سقوط سور برلين، و21 يوليو 1969 عند هبوط نيل ارمسترونغ على القمر قائلا «خطوة ضئيلة للإنسان لكنها قفزة عملاقة للإنسانية»، وكيوم 30 يناير 2005 عندما أثبتت الصبغة البنفسجية على أصابع ملايين العراقيين والعراقيات (كوضع الأمريكيين لأربعاء شارة كتب عليها «أدليت بصوتي») انتماءهم لسلالات البشر التي تمنحها الديموقراطية شجاعة القلب الذي يتحدى قنابل الإرهابيين.

انتخاب الرئيس 44 حقق الحلم الأمريكي، ليس المادي، وإنما الروحاني، الذي دفع بالدموع لعيني القس جيسي جاكسون في مقابلته مع البي بي سي، 45 عاما بعد أشهر عبارة في تاريخ المساواة والحقوق المدنية سجلها المؤرخون «لدي رؤية بعد ظهر اليوم» I have a dream this afternoon للقس مارتين لوثر كينغ ( 1929ـ 1968) والذي كان جاكسون من تلاميذه في مسيرة المساواة على واشنطن (28 أغسطس 1963) عندما كرر ما شهده في الرؤية بضع مرات: حلم أن يسير الأبيض والأسود يدا بيد للتقدم بالأمة وبالإنسانية نحو السلام ونحو «الخلاص» بمعناه الروحاني. وكان جاكسون بجوار كينغ يوم اغتياله (4 ابريل 1968) في ممفيس.

شاهد الملايين دموع جاكسون على شاشات التلفزيون يوم الأربعاء عندما تحققت رؤية أشهر زعيم أسود في تاريخ أمريكا، والثاني شهرة عالميا (بعد نلسون مانديلا) بعد رحيله بأربعة عقود.

كان أوباما في الثانية من عمره يوم بشر كينغ الأمريكيين والمظلومين حول العالم برؤيته «بعد الظهر» لكنه قلد كينغ في محتوى ومعاني عباراته ونبرات صوته في خطبه فاستحوذ على قلوب أكثر من نصف الأمريكيين.

تصويت الأمريكيين للرئيس الـ 44 أعاد لتمثال الحرية اعتباره التاريخي والمعنى الإنساني النبيل لشعلة الحرية.

اوباما نتاج خليط عرقي من أب مسلم مهاجر من كينيا (احتفلت نيبروبي طوال الأربعاء ووزعت جدة باراك الحلوى والمشروبات)، وأمه بيضاء، هاجر أبواها إلى هاواي. انتخاب رئيس بالخلطة الثقافية العرقية لاوباما يعيد لبلاده دورها التاريخي الرائد ليس فقط كبوتقة تنصهر فيها الأعراق والطوائف، وليست فقط كملجأ للضعفاء والفقراء والهاربين من الظلم على مر العصور، بل أيضا لريادة الإنسانية نحو مستقبل أفضل بتصحيح الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها بعض قياداتها غير الحكيمة في السياسة الخارجية.

قارن كثير من المعلقين اوباما بابراهام لينكولن (1809 ـ 1865) محرر العبيد وأبي المساواة العنصرية.

نشأ كلاهما في بيئة متواضعة، ودرسا المحاماة (أهم أسس القانون المساواة بين الجميع). كلاهما محام من ولاية اللينوي.

لينكولن ورث أمة منقسمة وعاصر حربا أهلية ودفع حياته ثمنا لتوحيدها بمبادئ يجني ثمارها الطيبة اليوم الأمريكيون والعالم.

ويرث اوباما تركة مثقلة بالانقسام (نصف سكان أمريكا لم ينتخبوه، لكنه وعدهم بأنه المسؤول الأول عن مصالحهم كمواطنين).

بدا اوباما حملته الانتخابية في سبرينغفيلدز في اللينوي، حيث عاش لينكولن 17 عاما، واستعار كثيرا من عبارات وأفكار لينكولن في خطاب جيتسبري الشهير عام 1863.

استطلاعات الرأي ترسم خريطة من أعطوه أصواتهم بألوان «رؤية بعد الظهر» لمارتن لوثر كينغ. الأمريكيون الأفارقة (الزنوج سابقا) والمواطنون الأصليون (الهنود الحمر سابقا) والهسبانيون Hispanics أي الناطقون بالإسبانية (لغة البلاد الثانية رسميا بعد الإنجليزية) ومعظمهم لاجئون من أمريكا اللاتينية هربا من الفقر أو من ظلم الديكتاتوريات؛ ومن البيض: الكاثوليك (هربا في القرنين 18 و19 من اضطهاد أوروبا) والايرلنديون (اللوبي الايرلندي هو الأكبر في أمريكا ويصوت دائما للديموقراطيين)، والمستقلون غير المنتمين لأي من الحزبين، والشباب الحالم بمستقبل أفضل وتظاهر في الجامعات ضد سياسة الرئيس بوش الخارجية، والنساء (اللاتي فضلت الديموقراطيات منهن، اوباما الرجل، «الصادق» على ابنة حواء الشقيقة هيلاري كلينتون «المشكوك في مصداقيتها»)، والغالبية العظمى من الأقليات الأصغر عددا كاليهود والمسلمين والمهاجرين من البلدان الناطقة بالعربية.

تشكيلة تمثل الروح الحقيقية التي ألهمت مؤسسي أمريكا الأوائل بدستورها العظيم كجورج واشنطن (1732 ـ 1799) وجيمس ماديسون (1751 ـ 1836) كملجأ للمضطهدين في العالم للتحول بعد قرن وبضعة أعوام للحارس الأول للحرية (لولا تضحيات آلاف الأمريكيين بدمائهم على سواحل أوروبا وشمال أفريقيا، لما تمتعنا بحرياتنا اليوم كالتعبير بحرية في منبر كـ«الشرق الأوسط» ولاجتاحت النازية العالم لتصفي «الأجناس الدونية» كالسود والعرب واليهود والغجر).

أغلبية الأصوات بألوان خريطة مارتن لوثر كينغ لصالح اوباما أعادت الوهج لشعلة تمثال الحرية ـ التي كادت أخطاء السياسة الخارجية تطفئها.

في مهرجان السفارة الامريكية ليلة الانتخابات ظهر ممثل اسود بزي العم سام، وممثلة بيضاء، كتمثال الحرية.

أولوية تحديات اوباما ستكون إنقاذ الاقتصاد، أما سياسته العالمية فستهدف لاستعادة دور أمريكا كمحرر للشعوب وحام للديموقراطية.

سيسرع بتوقيع اتفاق مع بغداد بسحب قواته بمعدل لواء شهريا لإتمام الانسحاب في صيف 2010 بينما يقتصر دور «المستشارين العسكريين» الأمريكيين على تدريب العراقيين والقيام بمهام خاصة بطلب حكومة العراق حتى تتمكن قواتها من ذلك.

السناتور الذي صوت ضد حرب العراق، سيصحح الخطأ، كرئيس، بوضع أفغانستان على أولوية القائمة للانتصار على الإرهاب ببناء الدولة الديموقراطية الأفغانية.

وسيزيد عدد القوات الأمريكية في أفغانستان ويضغط على الحلفاء للمشاركة في بناء أفغانستان وتوفير المعدات العسكرية لجيشها. وسيرغم باكستان على التعاون لاستئصال الإرهاب ومحاربة زراعة الأفيون.

وسيركز على البناء والتعمير والتعليم وتدريب الأفغان بدلا من الغارات الجوية، أي كسب القلوب، وإنارة العقول بدلا من استخدام العضلات العسكرية.

التصويت يمنحه تفويض تنفيذ اقتراحه بالتفاوض مع بعض زعماء إيران وإنهاء عزلتها التي فرضتها أربع إدارات سابقة.

وسيخلق ذلك استقطابا داخل إيران قد يمكن البراغماتيين من عزل المتشددين بإعادة ماء الوجه بقبول الجمهورية الإسلامية كأمر واقع.

وفي إجابة عن سؤال صحفي أبقى اوباما الخيار العسكري (لتدمير المنشآت النووية في حالة فشل الديبلوماسية مع إيران) كورقة ضغط على الإيرانيين.

الاختبار الصعب هو قفاز التحدي الذي ألقاه الدب الروسي ساعات بعد فوز اوباما بإعلان نشر صواريخ «أيسكاندار» الموجهة ضد جمهوريتي التشيك وبولندا، اللتين وضعت فيهما أمريكا رادارات الإنذار المبكر وصواريخ دفاعية لإسقاط صواريخ قد تطلقها إيران.

أما مشكلة فلسطين وإسرائيل، فسيتركها اوباما إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، وحتى يحل العرب مشكلة حماس ورفضها الشرعية القانونية. ولذا فعلى الزعماء العرب أن يسبقوا بتهنئة ودعوة وزيارة اوباما والتعاون المبكر معه لأن انتخابه قد يكون بداية دور جديد لأمريكا لم يشهد التاريخ مثله منذ إنقاذنا من النازية ومنذ مشروع مارشال الذي أعاد بناء الاقتصاد العالمي بعد الحرب الثانية.