عصر جديد لأميركا

TT

نعم، لقد حان الوقت لكي نأمل من جديد، نأمل في أن يكون عصر الحركة الرجعية العنصرية وسياسة إثارة الانقسامات قد انتهى. لقد حان الوقت لنتخيل أن وطنية المنشقين لن تكون محلا للشك وأن العالم لن يعود منقسما بين «الناخبين ذوي القيم» ومن لا يملكون بوصلة أخلاقية توجههم. لقد حان الوقت لنتوقع أن الطابع الإيديولوجي لن يظل كافيا لاعتبار سياسي ما غير كفء.

وفوق كل ذلك، لقد حان وقت الاحتفال بتبني البلاد الديمقراطية بصدق، كما انعكس في الجهود المكثفة التي بذلها الأميركيون في هذه الحملة، والإقبال الهائل على مراكز الاقتراع في جميع أنحاء البلاد. وعلى مدى أعوام، كنا نتحدث عن إجراء انتخابات حرة في بقية أنحاء العالم، حتى مع تشكيكنا ـ بسخرية ـ في أسلوب ممارستنا السياسية، وبالأمس، اخترنا أن نمارس ما كنا ندعو إليه.

لا يمكن أن نعتبر فوز أوباما الكاسح في الانتخابات مجرد رد فعل شعبي على أزمة اقتصادية أو حكم على رئيس غير محبوب، على الرغم من أهمية إصدار الحكم على الرئيس بوش.

باختيار أوباما وكونغرس يغلب عليه الديمقراطيون، تضع البلاد نهاية حاسمة لعصر محافظ متأصل في ثلاث خرافات: أنه من الممكن أن يحكم الحزب بنجاح بينما يشوه دور الحكومة باستمرار، وأن الشعب الأميركي منقسم في صراع أخلاقي لا يمكن كبته ليضع «أميركا الحقيقية» ضد محاكاة باهتة، وأن رأسمالية السوق من الممكن أن تنجح بدون وضعها تحت تنظيم فعال من الحكومة بما يتفق مع الصالح العام وبدون إعادة توزيع الدخل باعتدال للتخفيف من حدة التفاوت.

كان جون ماكين يعتقد أنه يستطيع الفوز بالهجوم على أوباما ووصفه بـ«الاشتراكي» الذي يقول إنه «سيوزع الثروة»، ولكن تريد الأغلبية العظمى توزيع الثروة إذا كان هذا يعني تغطية الرعاية الصحية والمعاشات وفرص في الجامعات من أجل الجميع، أو يعني الطلب من الأثرياء أن يتحملوا نصيبا أكبر بقليل من عبء الضرائب.

لقد قال أوباما في تجمع انتخابي له في بيتسبرغ الأسبوع الماضي: «ماكين يصف ذلك بالاشتراكية، وأنا أدعوها فرصة» وكذلك فعل الناخبون.

ظل ماكين وسارة بالين، متمسكين بأنهما على صواب حتى النهاية، حيث اعتقدا أن إطلاق الصفات قد يفلح مرة أخرى. ففي عشية الانتخابات، هاجم ماكين أوباما لأنه «في أقصى يسار السياسة الأميركية،» بينما حذرت بالين من فوز «جناح اليسار المتطرف في الحزب الديمقراطي»، وفي العام الحالي، لم تحقق هذه الألقاب الهدف منها.

وبعد عام 1980، اختار الديمقراطيون أن يكيفوا أنفسهم وفقا لافتراضات المحافظين. ولكن نسف أوباما الإطار القديم، ورفض بوضوح فكرة أن يختار الأميركيون ما بين تحكم حكومي «أكبر» أو «أقل»، أو بين حكومة «كبيرة» أو «صغيرة»، ولكنه وضع معيارا آخر للاختيار، فقال: «يجب أن تعمل الحكومة من أجلنا وليس ضدنا. يجب أن تساعدنا ولا تؤذينا». لقد خاض أوباما الانتخابات كمرشح تقدمي وليس كمحافظ، ولكنه كان أيضا واقعيا وليس مدافعا عن إيديولوجية. يوضح هذا المزيج الشكل الذي ستكون عليه رئاسته.

ومنذ عهد نيكسون، ادعى المحافظون أنهم يتحدثون باسم «الأغلبية الصامتة». ولكن، يمثل أوباما أغلبية المستقبل، إنها الأغلبية التي تعيش في دولة تتميز بالنشاط والقوة يتزايد فيها التأقلم على تنوعها. إنها تعكس تفاؤل الشباب بالمستقبل. وتجذب ناخبين من سكان الضواحي الذين يضعون في أولوياتهم أمورا عملية، من الوظائف والمدارس ووسائل المواصلات، ويكرهون الخلافات التي تدعو إلى الغضب حول زواج المثليين والإجهاض والمعتقدات الدينية.

إن أغلبية الشعب المعتدل ثقافيا هي التي تحمست لحديث أوباما عن أهمية الآباء والعائلات القوية والمسؤولية الشخصية. وقد أكد تقليل حالات الإجهاض وليس منعها. وأشار إلى احترامه لدور العقيدة في الحياة العامة، ولكنه رفض تهميش الأقليات الدينية وغير المؤمنين. وفي أنحاء شاسعة من العالم، يقف اسم أوباما الأوسط كرمز، يؤكد التزام أميركا بالتعددية الدينية.

لم يكسر أوباما الحاجز العنصري فقط، بل تحدث أيضا عن العرق كما لم يفعل سياسي آخر. لقد كان قادرا على رؤية القضية من جانبي اللون، حتى مع اعتناقه لهويته كرجل أسمر البشرة. إنه ليس في مرحلة ما بعد العنصرية، ولكنه متعدد الأعراق. والكلمة تصف شخصيته، وتصف أيضا الائتلاف الموسع الذي أقامه والدولة التي سيقودها.

وتريد الأغلبية التي كونها أوباما أن تكون البلاد قوية وأيضا محترمة وحذرة في استخدام قوتها. كانت قضية العراق إحدى أوراق الاقتراع على أية حال، وقد كشف بحث مركز بيو النهائي أن من كانوا يعتقدون أن قرار الحرب على العراق كان سيئا ساندوا أوباما بنسبة أكبر من 5 إلى 1، وهؤلاء الذين ظنوا أنه قرار صائب ساندوا ماكين بأرقام مماثلة تقريبا.

ويتحمل أوباما إرثا من التحديات التي من الممكن أن تثقل كاهل أي قائد، ويواجه قيودا ترهق حتى مهاراته السياسية الاستثنائية. ولكن الأزمة تمنحه فرصة لم تتوافر إلا لقلة من الرؤساء من أجل إعادة تشكيل فرضيات البلاد، وتغيير شروط الخلاف وتحويل سياستنا. وتشير الطريقة التي خاض بها الانتخابات والطريقة التي فاز بها إلى أنه ينوي أن يفعل ذلك تحديدا.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»