نحو اتحاد أكثر كمالا

TT

بعيداً عن قضايا العراق والاقتصاد والرعاية الصحية، كان هناك أمر أكثر جوهرية في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأخيرة نجح باراك أوباما في تحقيقه، ألا وهو إثارة شعور احترام الذات لدى الأميركيين.

على امتداد قرابة ثمانية أعوام، عاين الأميركيون كلمات تم تجرديها من أية معان حقيقية، وشهدوا التضحية بأرواح، في مواجهة أسلحة عراقية لا وجود لها.

وفي مواجهة كل ذلك، خاض أوباما رهاناً بسيطاً والتزم به، يقوم على فكرة أنه إذا كنت تثق بأخلاق وحكمة الشعب الأميركي، حتى وإن كان يمر بنهاية حقبة غلبت عليها المخاوف والخسائر، فإن باستطاعتك صياغة توجه سياسي جديد وإحراز الفوز.

يذكر أنه منذ أربع سنوات سابقة، وأثناء مؤتمر عقده الحزب الديمقراطي، ألقى أوباما خطاباً سلط الأضواء فيه للمرة الأولى وأكد خلاله على أنه: «إلى جانب مبدأ احترام الفرد الذي نشتهر به، هناك عنصر آخر تتألف منه الملحمة الأميركية: الإيمان بأننا جميعاً مترابطون كأمة واحدة».

ولم يتخل أوباما قط عن هذه الفكرة، ففي مساء الثلاثاء وخلال الخطاب الذي ألقاه في شيكاغو ابتهاجاً بالنصر، شدد أوباما على أننا: «في هذا البلد، نعلو أو نسقط كأمة واحدة، كشعب واحد».

وخلال السنوات الأربع الممتدة بين الخطابين، لم يثر أوباما قط. ودون عناءً شديد، تمكن أوباما من التغلب على اثنين من أقوى الكيانات السياسية على وجه كوكب الأرض: أولاً آل كلينتون، ثم الحزب الجمهوري.

في واقع الأمر، تحمل الأفكار قوة خاصة بها. ومع أن جون ماكين طرح الكثير من العناصر في إطار حملته الانتخابية، فإن الأفكار لم تكن من بينها. وفي خضم أزمة اقتصادية، بدا ماكين عاجزاً عن ترتيب أفكاره حيال كيفية التعامل معها. وعليه، حسمت أوهايو، التي تضررت بشدة جراء هذه الأزمة، اختيارها الرئاسي، ولم تكن وحدها من قام بذلك.

لقد أخطأ ماكين باختياره سارة بالين التي جسدت ذات التوجهات المتشددة وضيقة الأفق التي اتسمت بها إدارة بوش والتي سئم منها الأميركيون والعالم أجمع.

وتحلى ماكين بقدر كبير من اللباقة عند إعلان الهزيمة، وبدا وكأنه شعر بارتياح لأنه أصبح قادراً على العودة إلى نفسه وحياته والفرار من مخالب التيارات المتطرفة داخل الحزب الجمهوري.

وتدور الفكرة الرئيسة الخاصة بأوباما ببساطة حول أن أميركا باستطاعتها التقدم لوضع أفضل مما كانت عليه، وأن بمقدورها المضي لما هو أبعد من الغضب والخوف اللذين سادا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) بحيث تجسد من جديد الفكرة التي ما زال العالم يتوق إليها: الأمل.

إن أميركا بإمكانها أن تعني حقاً ما تقوله، ويمكنها احترام أصدقائها وسبر أغوار أعدائها قبل أن تقدم على تطبيق سياسات الصدمة والترويع ضدهم. وباستطاعتها أيضاً الإنصات للآخرين، وإعادة اكتشاف روح الجماعة بعيداً عن التوجهات الفردية المحمومة التي أسقطت وول ستريت.

في الواقع، أدرك جيداً أن تلك مجرد كلمات، ليس بإمكانها تصحيح العجز القائم حالياً أو نزع أسلحة أعدائنا. ورغم ذلك، تبقى للكلمات أهمية كبرى، وهذا تحديداً الدرس المستفاد من سنوات حكم بوش.

فأنت لا يمكنك ان تتحدث عن الحرية، وتمارس التعذيب.

ولا يمكن أن تعزز الديمقراطية، بينما يتعرض الأشخاص للاختفاء على يديك.

ولا يمكن أن تزعم مساندتك لحكم القانون، في الوقت الذي تحرم المسجونين من حقوقهم الأساسية.

ولا يمكنك التخلي عن الشفافية والتنظيم الضروريين لضمان عمل أسواق رأس المال الحديثة على الوجه الأمثل، بينما يراودك الأمل في أن تكون منارة للنشاط التجاري الحر.

وإن أمكنك القيام بكل ذلك، فستجد نفسك وحيداً في نهاية الأمر.

أما أوباما، فسيعيد ابتكار كلمات ذات معنى حقيقي، وذلك أساس كل شيء. ولا شك أن تمتعنا بقائد قادر على ارتجال جملة إنجليزية تحمل شكلا جديدا نحوياً، ليس بالأمر السيئ. وخلال فترة الكساد القادمة لا محالة، سيحظى الأميركيون بقائد قادر على إثارة أفضل ما بداخلهم، بدلاً من بوش الذي أثار حنقهم.

أثناء الانتخابات، قمت بالتصويت داخل حي بروكلين، واضطررت للوقوف في صف لساعتين. أثناء ذلك، شرعت في الحديث إلى السيدة التي كانت تقف خلفي، وأخبرتها أنه باعتباري حاصل على الجنسية الأميركية مؤخراً، فإن تلك هي المرة الأولى التي أدلي فيها بصوتي. فأجابتني السيدة بقولها: «تهانينا»

وقد كشفت هذه الكلمة وحدها عن معان كثيرة حول المواطنة كفكرة ومسؤولية، وليس كأمر يتعلق بالدم أو العرق أو العنصر.

وطرأ على ذهني أن القناعة الرئيسة لدى أوباما بشأن الملحمة الأميركية ـ وهي إيمانه بترابط كافة الأميركيين ـ نبعت من تجربته الشخصية التي جعلته ينتمي على نحو غير متوقع إلى الولايات المتحدة.

من المعروف أن أوباما ولد لأب كيني قضى فترة موجزة داخل الأراضي الأميركية، وتصادف خلالها لقاؤه بامرأة شابة من كنساس. وأثمر ارتباطهما عن طفل مزدوج العنصر تنقل بين عدة بلدان، لكن لحسن حظه جاءت ولادته في هاواي.

إن حديث أوباما المستمر حول قناعته بالقدرة على تحقيق كافة الإمكانات داخل أميركا نابع من هذه التجربة. وقد عرف بحدسه القوي أنه بعد سنوات طويلة من إهانة الكثير من القيم الجوهرية الأميركية، فإن طرح حجة تدعو لما تطلق عليه مقدمة الدستور الأميركي «اتحاد أكثر كمالاً» سيكون له أصداء واسعة.

نادراً ما تحدث أوباما بصراحة عن قضية العنصر، رغم وصفه العبودية بأنها «الخطيئة الأولى» لأميركا. ولم يكن بحاجة لذلك، ففي فترة نمر خلالها بحالة من استكشاف الذات على الصعيد الوطني، ليس هناك رمز أفضل من انتخاب أميركي من أصول افريقية لمنصب الرئاسة للتدليل على أنه بات لدينا «اتحاد أكثر كمالاً» وأننا نجحنا في التغلب على جراح خطيئتنا الأولى.

وليس هناك رمز أقوى من ذلك باستطاعته التأكيد للعالم بأسره أن أميركا تشهد بعثاً جديداً.

إن الوقت الراهن ملائم تماماً كي نحلم، لقد استعاد الأميركيون هذا الحق في أن يحلموا، علاوة على فوزهم باحترام العالم من جديد.

*خدمة «نيويورك تايمز»