لتنسحب أميركا ونحن كفيلون «بدحر» إيران!

TT

مهما تكن توليفة الإدارة الأميركية الجديدة، ليس سهلاً عليها الانسحاب الشامل من العراق، مثلما ليس سهلا الإبقاء على الاستراتيجية نفسها، التي لم تؤد الى حسم الموقف، حيال التدخلات الإيرانية والوضع العراقي نفسه، الى أن أخذت الحال توصيفة المأزق بامتياز.

وفي خضم الهواجس والقلق والمأساة، ترتفع أصوات تقول لينسحب الأميركيون ونحن كفيلون بدحر التدخلات الايرانية، فتلك أحكام الأقدار منذ قرون!. ويصبغ الواقعيون بصبغة المتمنطقين بالنبرة الأميركية. ومع الاحترام للمعانين، فأين الصواب؟

مخططو السياسة الايرانية يتصرفون بغلو، ويعتقدون أنهم نجحوا في توجهاتهم. وبمرور الوقت، لن يكون شكل الحكم موضع اهتمامهم بقدر ما تكون الهيمنة الكاملة على العراق سبيلاً الى الهدف القديم الجديد، وشفط موارده وثراوته، وإعادة الغابر مما (لن يعود) من الأيام.

ولا شك أن إيران أضعف من ان تتحمل مجابهة واسعة مع الغرب، أو أميركا لوحدها، لكنها قوية إقليمياً، وقوية تجاه العراقيين في المرحلة السيئة التي أعقبت غزو الكويت. وقد انتقل كأس السم الى غيرها (حتى الآن).

يثبت مسلسل ما بعد حرب 2003، أن السياسة الإيرانية لم تمن بهزيمة واحدة، ليس لأنها حكيمة، بل بسبب تخبط وعجز وسياسة الأطراف الأخرى، التي زادتها الأزمة المالية تعقيداً. ففي عام 2006 شنت فرق الموت المدعومة من فيلق القدس وصلال الأفاعي، حربا لإبادة الجنس البشري بحرب لا مثيل لها في المنطقة، لتفريغ بغداد من الملايين من أهلها. ولم يكن من بد غير النزوح الى خارج العراق، فترى مدنا لدول عربية تعج بآلاف من ضباط وقادة الجيش ممن وقفوا بوجه الاندفاعات العدوانية الايرانية، ولم يعد هناك وجود حقيقي مؤثر لذلك الجيش. ولولا المستجد من عناصر الصراع، ومن بينها المتغيرات في الاستراتيجية الاميركية، ونزول القوات الأميركية الى شوارع بغداد بكثافة، لحلت كارثة العصر. وهذه حقيقة تحتاج الى الوقت لاكتساب الاعتراف بها.

ونتيجة عنف القاعدة وإرهابها، ترك عشرات الآلاف من المسلحين ممن انخرطوا تحت لافتة المقاومة مواقعهم، الى مجالس الصحوات، التي عارضتها إيران علناً، لأنها ترى فيهم عدواً، وبات شباب الصحوات قريبين الى الأميركيين لأنهم أدركوا المخاطر، لكن وضعهم الى تآكل مستمر وربما سريع.

نعم لقد انتفض عرب العراق ضد النفوذ الايراني، لكن وسائل الدعم كانت ضعيفة الى حد كبير، فحافظ النهج الايراني الموتور على وضعه.

ونتيجة التوجهات غير المدروسة لم يكن ممكناً الحصول على توازن واقعي في البرلمان، فخضعت القرارات لمهبات الرياح. وأصبح رافعو شعار لتخرج أميركا في وضع لا يحسدون عليه، فمن العجز في البرلمان، الى التفسيرات الكيفية في بنود الدستور، الى مشاكل الاحتكاك مع الكرد في كركوك والموصل وديالى وصلاح الدين، الى مئات آلاف التضحيات، بدأت جسامة الخسائر تظهر بوضوح شديد، ولم تعد الحال كما كان متصورا لها، لأن الجبهات تعددت والسياسات اختلطت، ولم تعد قراءة الأوراق ممكنة.

وماذا لو خرجت أميركا الآن ؟

بالنسبة لإيران ستشرع الحدود أمامها، لأن القوات العراقية ليست قادرة على سد الثغرات، إن كلفت بهذه المهمة الشاقة. والحدود كلها ثغرات، ولم تعد هناك قوى تستطيع مجابهة فرق الموت المدعومة إيرانياً (في ضوء المعطيات الحالية)، فكيف إذا دخلت معهم مجموعات من الباسداران وفتحت أبواب مخازن السلاح الإيرانية. فالحكومة العراقية، أية حكومة كانت بأي لون وثوب، لن تستطيع التصدي للعنفوان الإيراني، لأنها ستجد نفسها أمام جبهات، متعددة الاتجاهات، كأنها ابواب جهنم، إلا إذا كانت أداة إيرانية لتتحول الى حصان طروادة للمشروع الإيراني.

أما الطرف الآخر، فلن يكون قادراً على الوقوف بوجه التيار وليس دحره، إلا إذا رمى العرب عموماً والخليجيون تحديداً (بثقلهم) لسنين طويلة، وهو ممكن، لكن هل تسمح استراتيجيتهم ومصالحهم بذلك؟. أشك. وكيف لو أصبحت إيران نووية ؟، وكل المؤشرات تدل على أنها ستبلغ الهدف إذا ما بقي النهج المعاكس حائراً ومحيراً.

الذين خاضوا الحرب على الحدود العراقية الإيرانية يعرفون الثمن الذي دفع للوصول الى نتيجة إرغام الطرف الآخر على وقفها، وهم وحدهم الذين يعرفون معنى القدرات المتاحة.

لذلك قد لا يكون من الوجود الغربي في العراق بداً، كي لا تحل كارثة العصر، لكن الإقرار بأهمية الوجود الغربي لا تعني شيكاً مفتوحاً، فالمتضررون مما حدث بعد 2003، يرون في الوجود الأميركي سببا لمعاناتهم ولا أحد يمكنه إنكار كل ذلك، فالمشاريع التي سطرها الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر أسهمت جدياً في محنة العراقيين، وأطلقت يد المتشددين من الإيرانيين بطريقة وأخرى في الوضع العراقي. فالوجود الأميركي ليس مرحبا به على أساس إبقاء عناصر ظلم مشاريع بريمر قائمة، بل على أساس إعادة تقييم الموقف وتقويمه بما يساعد على إقامة عراق يسوده العدل (ولو بعض العدل) على أن يكون بعيداً عن التدخلات الإيرانية.

وبخلاف ذلك، وإذا ما قرر الغرب الانسحاب من العراق، تحت وطأة الظروف المالية والجزع من حرب طويلة، فإن العراق سيقع فريسة بيد المشروع الإيراني، ما يقود الى تصادم خطير يهز أمن العالم ومرتكزاته، أو أن تخضع المنطقة كلها للتوجهات الإيرانية، وهو أمر لا يمكن تصوره ويستحيل القبول به، ولن يحصل، لأنه مخالف لكل المعطيات.

إذا المطلوب إعادة تقييم الموقف وتقويمه بما يؤمن التوازن العادل في العراق بعيداً عن النفوذ الإيراني، ولا شك أنها مهمة شاقة، لكنها ممكنة.

وأختتم بما قلته في مقال في «الشرق الأوسط» يوم 27 ديسمبر 2001 هذه خاتمته:

(صحيح أن لا أحد يذرف دمعة إذا ما سقط النظام القائم في العراق، لكن سيبقى العرب في حسرة، على العراق، إذا لم تنتق الوسائل وتتقن المسالك، وربما سيبكون دماً، لأنه العراق بكل أهله وقدراته العظيمة).

[email protected]