أميركا.. ولا يزال الأمل مستمرا

TT

عبر كل من الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما، والسيناتور جون ماكين في خطابيهما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية، عن سر العظمة التي سادت بها أميركا العالم، وعن سر استمرارية المجتمع الأميركي التي تسمح باستيعاب المستجدات والمتغيرات وهضمها، بدون أن تكون لها نتائج كارثية على وجود الكيانين السياسي والاجتماعي. فحين تأسست الولايات المتحدة الأميركية قبل أكثر من قرنين من الزمان، كانت هنالك كيانات وإمبراطوريات قائمة، وقامت بعد ذلك كيانات وإمبراطوريات أخرى، سقط الكثير منها واندثر، ولعل أبرزها كانت الإمبراطورية الروسية ثم الدولة السوفيتية التي حلت محلها ولم تلبث أن تنهار، وبقيت الولايات المتحدة رغم الأزمات والكوارث التي حلت بها، أو المشكلات التي عانت منها، وكان من الممكن أن تقضي على الكيان الأميركي، ولكنها لم تفعل، فما هو السر يا تُرى؟ ليس علينا البحث بعيداً، ففي كلمتي أوباما وماكين يمكن أن نتبين السر بسهولة. فقد قال باراك أوباما في كلمته: «إذا كان أحد لا يزال يشك في أن أميركا هي بلد كل الأمور فيها ممكنة، أو لا يزال غير متأكد من أن حلم الآباء المؤسسين لا يزال حياً.. فإن ما تم إنجازه هذه الليلة هو الرد.. إن القوة الحقيقية لشعبنا لا تأتي من قوتنا وأسلحتنا أو ثروتنا، ولكن من القوة الدائمة لمبادئنا: الديمقراطية والحرية والفرصة المتاحة، والأمل الذي لا ينضب. إن عبقرية أميركا تكمن في أن أميركا يمكن أن تتغير، ووحدتنا يمكن أن تصبح كاملة، وما حققناه حتى الآن يمدنا بالأمل لما نستطيع وما يجب أن نحققه غداً...». وقال جون ماكين ضمن ما قال في كلمته إن المعركة الانتخابية قد انتهت، وعلى الأميركيين جعلها وراء ظهورهم والنظر إلى المستقبل: «فالأميركيون لا ينسحبون ولا يستسلمون، ولا يختبئون وراء التاريخ، ولكنهم يصنعون التاريخ.. ». هنا تكمن كلمة السر: قابلية التغيير، وعدم الضياع في غيبوبة التاريخ.

فمنذ مجيء «كونتا كونتي» (بطل رائعة اليكس هيلي «جذور») عبداً مخطوفاً من شواطئ أفريقيا الغربية إلى أميركا، وحتى انتخاب باراك «حسين» أوباما كأول رئيس أفروأميركي للولايات المتحدة، كان هنالك الكثير، وحدث الكثير لما أصبح يُسمى لاحقاً «الولايات المتحدة الأميركية»، كانت العبودية هي عنوان المجتمع الأميركي، وجزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع آنذاك، لدرجة الاعتقاد أن الرق هو جزء من الخلق وإرادة الرب لعباده، وخاصة في ولايات الجنوب، ولم تنته هذه العبودية إلا بعد حرب أهلية مريرة، كادت تدمر المشروع. ولكن العبودية بقيت فعلياً حتى أواخر الستينات، حين كان الأسود مجرداً من كافة الحقوق الإنسانية، لمجرد أن لون بشرته يختلف عن لون بشرة الآخرين من البيض، ولكنه اليوم يدخل البيت الأبيض من أوسع أبوابه، بعد أن كان «كوخ العم توم» (رائعة هارييت ستاو) هو أكبر أحلامه.

ومر على أميركا حين من الدهر لم تكن فيه المرأة شيئاً مذكوراً، ليس لها من حقوق إلا ذاك القدر الضئيل الذي من به عليها رجل ما، وها هي اليوم وقد أصبح لها الحق في الوصول إلى أعلى منصب سياسي في البلاد. ومرت على أميركا فترات كان يُظن فيها أنها على وشك الانهيار، أو التحول إلى دولة شيوعية في أفضل الأحوال، وذلك خلال الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929 ـ 1933)، حين أقبل الآلاف على الانخراط في الحزب الشيوعي الأميركي، وظن الكثيرون أن «مشروع» الولايات المتحدة، كما حلم به الآباء المؤسسون، قد انتهى، وأن الحلم الأميركي قد انتهى إلى غير رجعة، ولكن أميركا نهضت من كبوتها، وعادت لتصبح قوة عظمى ومجتمعا مزدهرا، بل وحلم الكثيرين حول العالم، ومن بعد ذلك أن تتحول إلى القوة الأعظم على وجه البسيطة. منذ الثورة الأميركية البيضاء عام 1876، حتى «الثورة الأوبامية» السوداء عام 2008، مر بأميركا الكثير، وعانت الكثير، ولكنها سرعان ما تعود إلى الساحة ويستمر المشروع، فيما تسقط مشروعات أخرى، وكيانات أخرى لأسباب أوهن من تلك التي عانى منها مشروع فرانكلين ومادسون وهاملتون وجاكسون وآدامز وغيرهم، ولعل دولة آل عثمان ودولة آل هابسبورغ في النمسا والمجر تفرض نفسها مثالا هنا، والسبب ببساطة هو قابلية التغيير، وعدم النواح على أطلال التاريخ، أو الركون إلى ذكريات الماضي، فما مضى قد مضى، بجيده وسيئه، لا سبيل إلى تغييره، والمهم ما هو مقبل، وكيف يمكن تغييره، فهو الوحيد الذي يمكن التحكم فيه، إذا توفرت الإرادة للتحكم فيه.

وحين قال أوباما إن مصدر القوة الأميركية هو مبادئها في الديمقراطية والحرية والفرصة المتاحة، فإن ذلك ليس نفياً للتغير حين الإصرار على ثبات المبدأ، ولكنه يعني قابلية ذات المبدأ على التغير والتحول والتوسع. ففي الماضي كانت هذه المبادئ قصراً على الرجال دون النساء، وعلى البيض دون السود من الرجال، وعلى الأثرياء دون الفقراء، ولكن التغير، والقابلية للتغير، أصاب المبادئ نفسها، فتوسعت وامتدت إلى تخوم ما كان حتى الآباء المؤسسون لأميركا يتصورونها، لذلك أضاف أوباما، في ظني، ذاك المبدأ الذي تتحرك جميع المبادئ في ظله.. الأمل الذي لا ينضب.. فبدون الأمل والثقة بإمكانية التغيير، فإنه لا أمل في أي شيء آخر، أو لأي شيء آخر.

لا تموت أمة من الأمم، ولا يندثر مجتمع ما، ولا تذوي ثقافة من الثقافات، إلا حين تُصبح غير قادرة على التغير والتأقلم مع التغيرات والمتغيرات، أو حين يصبح مفهوم «التغير» غريبا في ثقافة تلك الأمة أو ذلك المجتمع، فلا يعود إلا التاريخ، وأطلال التاريخ، الذي يتحول إلى وثن تراق على جوانبه الدماء، وتُسكب عند ذكره العبرات، يسير من يسير، ويهرول من يهرول، ويبقى الوثن سيد الجميع، وخدعونا حين قالوا: «من لا ماضي له لا مستقبل له»، والحق أن نقول: «لا مستقبل لمن كان الماضي مرشداً له». وحين يتحول التاريخ من مصنوع مهيمن عليه، إلى صانع مهيمن، حين ذاك نُدرك أن الأمة أو المجتمع أو الثقافة في طريقها إلى الاندراس، أو هي قد درست فعلا. وأخيراً، وليس آخراً بطبيعة الحال، لا تندثر أمة من الأمم، أو ثقافة من الثقافات، إلا حين لا يعني مفهوم «المستقبل» لها شيئاً، أو لا يعني أكثر من تمني أن يكون المآل مثل ما كان الحال، في رومانسية، قد تكون عذبة مع التاريخ، وبحنين، قد يكون مؤلماً ولذيذاً في آن معاً، لما قد مضى، ولكن لا عذوبة الرومانسية، ولا ألم الحنين ولذته، يصنعان مستقبلا، طالما بقي وثن التاريخ هو المعبود، وطالما بقيت الأطلال والتغني بها هي كل إنجاز، وطالما بقيت أبيات ابن العبد: «لخولة أطلال ببرقة ثهمد، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وقوفاً بها صحبي على مطيهم، يقولون لا تهلك أسى وتجلد»، هي عنوان الثقافة، بل وكل الثقافة.

في الحشد الذي تجمع للاحتفاء بحلم مارتن لوثر كينغ الذي تحقق أخيراً، بوصول أول «زنجي» إلى رئاسة دولة كانت حكراً على البيض في الماضي، كانت الدموع تنساب من عيني القس جيسي جاكسون، رفيق مارتن لوثر كينغ في رحلة الكفاح لتأكيد إنسانية الإنسان بمختلف ألوانه، وكانت تلك الدموع تحمل الكثير من المعاني، لا يمكن أن يفك رموزها إلا من عانى، مثل جاكسون أو أوبرا وينفري التي كانت تبكي أيضاً. كانت دموع جاكسون تحمل تاريخا طويلا من الألم والمعاناة.. ولكن.. وفوق ذلك كله.. الأمل والثقة بمستقبل أفضل للإنسان في كل مكان. كانت تلك الدموع، وكما قرأتها، تردد كلمات مارتن لوثر كينغ الأخيرة: «أحرار في النهاية.. أحرار في النهاية.. شكراً يا إلهي، نحن أحرار في النهاية».. فلا تفقد الأمل أيها الإنسان.. لا تفقد الأمل.. فليس في النهاية إلا الإنسان..