أوباما الأسود.. والحاجة الدائمة إلى قراءته أميركيا

TT

امتلأت صحف وإذاعات وتلفزيونات الوطن العربي، بالتحليلات حول الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما. كانت الحملة الانتخابية محتدمة في الولايات الأميركية، بينما كانت الحملات التحليلية محتدمة في كل بلد عربي على حدة. أما النغمة العامة فكانت في أغلبها نغمة متفائلة، تتطلع إلى نجاح أوباما وهزيمة جورج بوش. تحب أوباما وتكره بوش. ثم ينبني على ذلك تفاؤل بأن أوباما سيغير ولا بد سياسة بوش، وسيكون هناك على يدي اوباما عالم يسوده الهدوء والسلام والمحبة.

أشعر أن هناك حاجة ملحة لتغيير هذه النظرة العامة المتفائلة، حتى لا تكون هناك صدمة لدى المواطن العربي حين لا يجد عند أوباما الآمال التي كان ينشدها، ليس لأن أوباما رجل سيئ، سيخدع جمهوره، وسيخدع الذين أحبوه وتفاءلوا به على مستوى العالم، بل لأن النظرة إليه لم تكن واقعية, وكانت ملونة حسب كل بلد على حدة. أحيانا كان اللون عربيا بينما الرئيس أميركي، وأحيانا كان الرئيس كان صينيا أو هنديا أو فنزويليا بينما الرئيس أميركي. هناك الآن حاجة لمزج الألوان، فالسياسة الأميركية لا يمكن اختزالها بلون واحد أو لونين، ولا بد لمنطلق النظر من أن يكون من خلال اللون الأميركي أولا، ثم تلي الألوان الأخرى محاولة أن يكون لها مكانها في لوحة الألوان الكثيرة والمتداخلة.

وحين نبتعد عن النظرة المتفائلة، لا نسعى إلى بلورة نظرة متشائمة. وما نتطلع إليه هو نظرة واقعية، نظرة نفهم من خلالها منطلقات ومحددات السياسة الأميركية، والتي يخضع لها بالضرورة كل رئيس أميركي. والكل الآن ينظر ويراقب ليرى كيف سيتعامل الرئيس الأميركي الجديد مع المنطلقات والمحددات الأميركية.

والنقطة الأولى، والأكثر أهمية في رأيي، أن الرئيس الأميركي الجديد هو رجل أسود. وهنا تتركز الأنظار على تكوين الولايات المتحدة الأميركية. فهي بلد مهاجرين. كل الناس فيها مهاجرون. والتمييز في أميركا ليس بين المواطن الأصلي والمواطن المهاجر (المواطن الأصلي تمت إبادته)، بل بين أجيال المهاجرين. وما يسمى في أميركا الآن: الرجل الأبيض، هم جيل المهاجرين الأول، والذين أصبحوا يدعون لأنفسهم مع الزمن خاصية تأسيسية. ثم جاء السود إلى أميركا، جاءوا مرغمين، وجاءوا مخطوفين، وجاءوا عبيدا، ثم عاشوا عبيدا لسنوات طويلة. ثم كانت هناك حرب أهلية طاحنة بسبب العبودية، تحرر بعدها ملايين السود من العبودية، تحرروا حسب نص القانون، ولكن عبوديتهم استمرت في النفوس وفي المؤسسات وفي المجتمع، فكانت هناك سيارات ركاب خاصة بالسود، ومطاعم خاصة للسود، ومقاعد في الأماكن العامة خاصة بالسود. ولم يكن هناك سود يسمح لهم بدخول الجامعات. وعلى قاعدة هذا الواقع بدأت نضالات حركة الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي، وبرز من بينهم مارتن لوثر كينغ الذي اغتيل في 4/4/1968، ومالكولم إكس الذي اغتيل في 21/2/1965. ثم برزت حركة الفهود السود، وحركات عديدة أخرى. وفي العام 1960 نجحت هذه الحركة في تثبيت حق الترشيح والانتخاب للسود. وفي العام 2008 وضعت هذا الحق موضع التطبيق، فأوصلت لأول مرة مرشحا أسود إلى سدة البيت الأبيض، فيما يمكن اعتباره استكمالا لتحقيق المساواة القانونية والسياسية.

وفي الولايات المتحدة الآن، مكون اجتماعي ثالث مهاجر، يتكون من الأميركيين ذوي الأصول اللاتينية والمكسيكية، ويطلق عليهم وصف (الهيسبانيك)، وهم يشكلون 15% من السكان. وكما استطاع الأفارقة اختراق القيود والوصول إلى البيت الأبيض، فربما تتاح الفرصة لهؤلاء أيضا ليحققوا الإنجاز نفسه، فتتكامل بذلك المساواة القانونية والسياسية بين أطياف المهاجرين الثلاثة.

إنما لا بد أن نؤكد هنا على ملمح أساسي. فالأسود لا يصل إلى الرئاسة متحديا أميركا بل متحالفا معها. وكذلك الأميركي الهيسبانيك، وكذلك الأبيض المهاجر منذ زمن. ولذلك فإن التحالف مع المؤسسات أساسي وضروري لصناعة الرئيس، ومن غير الممكن صناعة رئيس ضد أميركا.

هذه الملاحظة ضرورية جدا، لرسم قاعدة التوقعات من الرئيس الأميركي حين يأتي أسودَ أو من أصول لاتينية، فهو لن يكون مع أفريقيا ضد أميركا، ولن يكون مع العرب ضد أميركا. إنه مع أميركا أولا، ومصالح أميركا ستبقى أساسية في رسم سياساته. ولعل هذه القاعدة تستطيع أن تضبط تفاؤل المواطن العربي تجاه ما نتوقعه من الرئيس الأميركي، ولعلها أيضا تستطيع أن تخفف من صدمة المواطن العربي، حين يجد أن أوباما ينفذ سياسات لا ترضينا.

بعد هذا نستطيع أن نرصد ثلاث أزمات كبرى لا بد أن تحظى بالاهتمام الأول لدى الرئيس الأميركي: الأزمة المالية، وحرب العراق، وحرب أفغانستان. وفي المسائل الثلاث هذه، تتداخل الظروف الأميركية الداخلية مع ظروف السياسة الخارجية. ويعبر التداخل هنا عن نفسه كما يلي:

في الأزمة المالية: هل سيحافظ أوباما على نهج وضع الخطط السياسية المالية، ثم الطلب من الآخرين أن ينصاعوا لها؟ أم أنه سيلجأ إلى سياسة الحوار مع الأنداد والحلفاء؟ السياسة الأولى تعني تكريس القطبية الأميركية، ومواصلة سياسة بوش والمحافظين الجدد، والسياسة الثانية تعني الاستعداد لقبول تعدد الأقطاب، مع ما يرافق ذلك من حوار وتحالفات.

في حرب العراق: هل سيكون الانسحاب هو الهدف؟ أم تخفيف عدد القوات فقط؟ والإصرار على وجود قواعد أميركية ثابتة، ليترافق الوضع بعد ذلك مع مواصلة سياسة نقل النفط من سلطة الدولة العراقية إلى سلطة الشركات الأميركية الأخرى، الأمر الذي يعني مواصلة السيطرة على العراق، مع ما يتولد عن ذلك من مواجهات متصلة.

في حرب أفغانستان: هل سيكون الانسحاب هو الهدف أم مواصلة الاحتلال والسيطرة؟ ولنلاحظ هنا أن الرئيس الأفغاني كرزاي، والذي يعتبر تابعا علنيا لأميركا، كان هو أول من أطلق صيحة في وجه الرئيس أوباما، داعيا له أن يوقف قصف الغارات الجوية على المدنيين بحجة محاربة الإرهاب. إن الحليف الأول لم يعد يطيق ما يجري. وهناك قضايا أخرى كثيرة، تبدأ أميركية وتنمو دوليا، وفي المقدمة منها قضيتا إيران وفلسطين. في إيران وعد أوباما بالحوار. ولكن ماذا إذا فشل الحوار، هل سيعود إلى التهديد بالحرب؟ وفي فلسطين، تعهد أوباما في خطاب مؤتمر «ايباك» بحماية أمن إسرائيل. ولكن ماذا يعني الأمن؟ الرئيس بوش قدم للأمن مفهوما خلاصته تأييد كل ما تريده إسرائيل، والضغط على الفلسطينيين ليقبلوا بذلك، فهل سيواصل أوباما هذه السياسة، أم أنه مستعد للضغط على إسرائيل حين تبدأ مرحلة نقاش المطالب الفلسطينية؟

إن كثيرا من هذه القضايا يحتاج إلى مراقبة وتأن، فالرئيس الأميركي مطالب بأن يحمي مصالح أميركا، وقد فعل الرئيس بوش ذلك بعدوانية مطلقة تجاه الآخرين، فما هي درجة العدوانية، وما هي درجة الوئام، التي سيختارها الرئيس أوباما للتعامل مع كل هذه القضايا؟

ثمة معارك داخلية قادمة على الطريق سيخوضها الرئيس أوباما. معارك مع الشركات، ومعارك مع مطالب الجهات التي دعمته ماليا في حملته الانتخابية. أوباما أعلن أنه سيدعم الطبقة الوسطى (لمساعدتها في سداد قروض المنازل)، وأعلن أنه سيدعم الطبقة الفقيرة، من خلال زيادة تعويضات البطالة، والمتوقع أن يتسع مداها بسبب التسريحات المرتقبة في ظل الأزمة المالية. وهو أعلن أيضا أنه يسعى إلى تعميم الضمان الصحي. وهذا توجه يضعه في صراع مع شركات الأدوية وشركات التأمين، وهي الشركات التي مولت حملته الانتخابية، ومولت من قبله حملة الرئيس السابق بيل كلينتون، ثم أجبر كلينتون على التراجع عن مشروعه للضمان الصحي بسبب موقف الشركات. إن المعارك المقبلة كثيرة وكبيرة. وهي من النوع الذي يبرع السياسيون في خوضه. ولكن التراث الأميركي يحمل إشارات كثيرة تقطع الطريق حتى على مجرد المحاولة. التراث الأميركي يحمل إشارات الاغتيال، وهو ما لا نتمنى أبدا أن يحدث على أيدي العصابات العنصرية المتناثرة هنا وهناك.