نهاية اليمين العالمي المتطرف!

TT

فوز باراك أوباما بانتخابات الرئاسة الأميركية هو هزيمة لليمين المتطرف الأميركي الذي شكل الأساس الايديولوجي لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وفي كلمته بعد الفوز بالرئاسة في مدينة شيكاغو الأميركية يوم الرابع من نوفمبر الجاري، قال أوباما: «إلى الذين يريدون تمزيق العالم وخرابه أقول سنهزمكم، وإلى الذين يريدون السلام أقول سنؤيدكم». الشق الأول في هذه العبارة يعني أن أوباما قد هزم اليمين المتطرف في الداخل، وهو يستعد الآن لمواجهة اليمين المتطرف في الخارج. أوباما سيكون أكثر شراسة مع بن لادن والظواهري وكل تنويعات التطرف، لأنه ضد اليمين المتطرف في الداخل والخارج. معركة اليمين المتطرف المسيحي واليهودي ضد اليمين المتطرف الإسلامي، التي أنتجت مقولات مثل صراع الحضارات للمفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون وما شابهها، هي نتاج معارك الشوارع الخلفية للتاريخ في إمبابة وبيشاور وفينسبري بارك‏،‏ كليشيهات وقوالب جاهزة يروج لها باعة الفكر الجوالون‏. مقولات نتجت خارج الحلبة الفكرية العالمية أو خارج الميدان العام‏،‏ محاولة طرح نفسها على أنها أفكار الميدان العالمي في ظل فوضى اللحظة العالمية الحالية‏.‏ وما يقال عن هنتنغتون ينطبق أيضا على أفكار التطرف في العالم الإسلامي، فهي مقولات أنتجت بالفعل وحرفيا في الشوارع الخلفية، رغم أن البعض يروج لها في شاشات التطرف على أنها معارك رئيسية وحقيقية تدور في الساحات المهمة‏.‏

فوز أوباما، ليس كما قال توماس فريدمان هو نهاية الحرب الأهلية الأميركية فحسب، إنما هو هزيمة التطرف الأميركي في الداخل وبداية المواجهة الجادة مع التطرف في الخارج. فوز أوباما يعني بداية النهاية لمعارك الشوارع الخلفية للتاريخ، حروب الغدر والمطاوي والصنج.

‏مقولة صراع الحضارات أنتجت في جامعة هارفارد‏، الجامعة نفسها التي تخرج منها باراك أوباما. ولكنها كانت من إنتاج اليمين المتطرف في هارفارد. ورغم أن فكر هارفارد هو ليس فكر الشوارع الخلفية‏ للتاريخ،‏ إلا أن هنتنغتون أنتج فكرته هذه لحساب القابعين في هذه الشوارع. تصيد هنتنغتون مقولات المتطرفين من المسلمين والهندوس وغيرهم وبنى عليها مقولة صراع الحضارات من دون فهم حقيقي. افتتح هنتنغتون مقاله في مجلة «فورن أفيرز» والذي طوره إلى كتاب فيما بعد بالعنوان نفسه، بكلمة للداعية السعودي سفر الحوالي، عندما وصف الحرب ضد صدام حسين في أحد أشرطته عام 1990 على أنها «ليست حربا ضد صدام وإنما هي حرب ضد الإسلام». هذه الجملة وردت أيضا في مقال لي بعنوان «أشرطة الحوالي»، كنت قد نشرته في صحيفة «النيويورك تايمز» (24 نوفمبر 1990)، وقد ترجمت فيه أشرطة لسفر الحوالي وقدمت تحليلا لمدلولاتها الفكرية. نقل هنتنغتون المقولة المجتزأة من دون فهم أو ذكر لسياقها، وليطلق بذلك أول طلقة في معركة اليمين العالمي المتشدد. هذه المعركة الجانبية في تاريخ الحرب الباردة بدأت في البروز واحتلال دوائر الضوء مع نهاية الصراع الفكري الكبير الذي سيطر على ذهنية القرن العشرين‏،‏ صراع الليبرالية ضد الاشتراكية. هذا الصراع الذي خلف وراءه حطاما كثيرا ملأ حارات التاريخ الخلفية، ففي تلك الخرابات ترعرع فكر بن لادن والظواهري وهنتنغتون وغيرهم. وكانت «غزوة منهاتن» وما تلاها من حرب بوش ضد الإرهاب ما هي إلا لملمة لمخلفات الحرب الباردة، ولكنها في الوقت ذاته إشعال لحرب عصابات أخرى، وهذا ما عنيته بحرب الشوارع الخلفية للتاريخ.

‏في فترة الحرب الباردة، كانت المعركة واضحة بين الفكر الليبرالي من جهة والفكر الماركسي الاشتراكي من جهة أخرى. وكان العالم كدائرة منقسمة إلي نصفين: نصف يؤمن بالفكر الماركسي ويجر خلفه قاطرة تدافع عنه من خلال منظومة مادية عرفت بالاتحاد السوفيتي ومن تبعه من أعضاء كتلة حلف وارسو أو الكتلة الشرقية‏، وفي النصف الآخر من الحلبة وقفت الليبرالية ومن خلفها الغرب بقيادة الولايات المتحدة (‏الغرب الليبرالي‏)، وهو غرب يختلف عن الغرب المتمثل في اليمين الديني‏ المتطرف. في هذا الصراع بين الليبرالية والاشتراكية. اليمين المسيحي‏ واليمين ا‏لإسلامي المتطرف وكذلك اليمين اليهودي، هذه (الميامين) وقفت في الشارع الخلفي لحلبة الصراع دفاعا ليس عن الليبرالية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي،‏ لم يكن دفاعا‏ (‏مع‏)‏ ولكنه كان دفاعا ‏(‏ضد‏). ‏تحالف الليبرالية مع هذه القوى المتطرفة يرجع في جزء كبير منه إلى تركيبة العقيدة الليبرالية ذاتها التي تؤمن بحرية الفرد وكذلك بالتسامح الفكري،‏ ولكنها لم تكن لتتصور أن حرية الفرد هذه ستصبح حرية في فرض سيطرة التطرف الديني، ولم تكن لتتخيل أن تحاول هذه الجماعات السيطرة على مقدرات الحكم في أهم وأكبر وأغنى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأميركية‏.

أوباما ليس جورج بوش الأب الذي أعلن نظاما عالميا جديدا مع سقوط حائط برلين وهزيمة صدام حسين أكثر زعماء دول العالم الثالث ديكتاتورية في حرب تحرير الكويت‏. كما أن أوباما ليس الرئيس بيل كلينتون الذي كانت تتنازعه أفكار مختلطة بين اليمين المتشدد بحكم نشأته في الجنوب الأميركي المتدين‏ (‏البابتست‏)،‏ وبين تعليمه في جامعة ييل التي تمثل ليبرالية الشمال. هذا التردد الذي خلقته جذوره الدينية الجنوبية هو الذي أفشل كلينتون في حربه على بن لادن أو على متطرفي أميركا في الداخل.

انتصار الليبرالية على الاشتركية في التسعينات لم يكن انتصارا مطلقا، بقدر ما هو لحظة إنهاك انهار فيها المعسكر الاشتراكي. كذلك كانت لحظة بدت فيها قوى الحداثة والليبرالية منهكة، وهنا انقض اليمين المتطرف على السياسة وعلى الاقتصاد، فمنحنا إدارة بوش لمدة ثماني سنوات ومنحنا كسادا عالميا في نهايتها، ومنحنا أيضا معارك الشوارع الخلفية للسيطرة على مجريات التاريخ. أوباما هزم هذا التيار المتطرف في الولايات المتحدة، وبشكل سلمي وفي انتخابات حرة، لذا قد يأخذ حربه من هزيمة اليمين في الداخل الأميركي إلى هزيمة كبرى لليمين المتطرف عالميا. وظني أن نصره لن يكتمل قبل أن يلحق باليمين العالمي المتشدد هزيمة مماثلة.

وفي النهاية، ورغم أن الملونين في العالم احتفلوا بفوز أوباما لاشتراكهم معه في العرق نفسه، إلا أن تجربة أوباما تعني أيضا نهاية أسطورة النقاء العرقي، فهو مولود لأب كيني أسود وأم أميركية بيضاء، تعلم في مدارس إندونيسيا الإسلامية، وعاش مع جدته المسيحية في جزر هاواي، وأصبح سيناتورا عن ولاية إلينوي. أوباما هو الإنسان الجديد، متعدد الهوية والذاكرة الجغرافية والخليط العرقي. الطريف في قصة أوباما، أن العالم كله أراد رئيسا أسود لأميركا، أوروبا بكل ليبراليتها من برلين إلى لندن إلى باريس كانت تصفق له، ولكن لا يوجد في القارة الأوروبية كلها رئيس أو حتى رئيس وزراء بلون أوباما. وفي هذا السياق، لن يكون أوباما نهاية معركة داخلية أميركية فحسب، بل إنه بداية معركة عالمية أوسع.