كيف ستتعامل معنا يا سيادة الرئيس؟

TT

كان انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في الأسبوع الماضي إنجازاً تاريخياً. وكما هو متوقع في مثل هذه الحالة لم يقصِّر المحللون في وصف مغزى هذا الحدث وأبعاده وتداعياته. وكان ثمة إجماع على أن الإنجاز الأضخم هو ذلك الذي حققه الشعب الأميركي بتنكّره الرائع للعنصرية، يليه مباشرة، إنجاز «دولة المؤسسات» التي صنعها هذا الشعب.

صحيح، أن إخفاقات إدارة جورج بوش «الإبن» نجمت في جزء منها على الأقل عن المقاومة التي أبدتها الشعوب التي جابهتها سياسياً وقتالياً، وأيضاً، اقتصادياً. لكن لا بأس من القول أيضاً أن أي نهج سياسي دوغماتي متطرّف، بعيد عن الواقعية، محكوم عليه بالفشل مهما طال الزمن .. ومهما حقّق من انتصارات مرحلية.

وبناء عليه، وجّه ابتعاد الحلفاء عن واشنطن.. الحليف تلو الآخر، وبمستويات متفاوتة من «التهذيب»، رسائل فعّالة إلى الشارع الأميركي نبّهته إلى مساوئ تجاهل الحلفاء وإحراجهم في مغامرات لها «جداول أعمال» مُبهَمة، كي لا نقول مشكوك في صدقها وصدقيّتها.

في أي حال، كان ضرورياً إجراء قراءة حكيمة وموضوعية لهزيمة الجمهوريين المجلجلة سواء في سباق الرئاسة أو معارك الكونغرس، بدلاً من أخذ الأمور على ظواهرها. وحسناً فعل الرئيس المنتخب نفسه عندما حذّر في أول خطاب ألقاه عشية الانتصار الكبير، بأن تراكمات الماضي لن تزول خلال فترة قصيرة بل «قد تحتاج لأكثر من فترة رئاسية واحدة».

هنا بيت القصيد.

الولايات المتحدة دولة مؤسّسات لا أشخاص.. مهما كان مستوى «تاريخيتهم».

فلا جورج واشنطن، ولا أبراهام لنكولن، ولا فرانكلن روزفلت، ولا أي رئيس أتى وأي رئيس سيأتي... أكبر من الدولة ومصالحها العليا. ولئن كان يحقّ لمَن أزعجته سياسات واشنطن بأن «يشخصن» العداء، كما فعل الرئيس العراقي السابق الراحل صدام حسين بصورة جورج بوش «الأب» عندما جعلها على أرضية مدخل أحد الفنادق، وكما يفعل البعض الآخر اليوم عندما يشمت لهزيمة الجمهوريين بصبيانية تغيب عنها الحكمة والجديّة، .. يتوجب على قادة الدول الصغيرة في تعاملهم مع دول كبرى تمارس التداول الديمقراطي للسلطة، أن يدركوا أن الغاية الأسمى لأي من قادتها خدمة مصالح بلاده بالصورة التي يعتقد أنها الأفضل والأنجع. إنه مفوّض شعبياً لخدمة شعبه وبلاده قبل أي جهة أخرى.

فصبيحة انتصار أوباما ـ بل حتى قبلها ـ روّج البعض في العالمين العربي والإسلامي لفكرة أنه سيقلب الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة رأساً على عقب. وربما أسهم في تعزيز هذا التصوّر محاولة بعض الجمهوريين الغبيّة والسيئة النيّة ربط أوباما بـ«الإرهاب» من منطلق زمالته للأكاديمي الفلسطيني الأميركي اللامع البروفسور رشيد الخالدي في مجال التدريس بجامعة شيكاغو. ومعروف أنه في قاموس اليمين الأميركي المتطرّف يكفي الأصل العربي وحده لكي يحمّل صاحبه تبعات «الإرهاب» من كل صنف ولون.

ولكن ما أن باشر الرئيس المنتخب «سلّة» تعيينات جهاز مساعديه، وكان أولهم زميله النائب اليهودي رام ايمانويل (عن ولاية إيلينوي التي يمثلها أوباما في مجلس الشيوخ)، حتى بدأ الكلام عن هيمنة «اللوبي اليهودي» على الإدارة الجديدة.

الحقيقة البسيطة التي عجزنا نحن العرب عن فهمها في علاقتنا مع الولايات المتحدة أننا ما زلنا غرباء عن فكرها السياسي، ومن ثم عن ممارستها السياسية النابعة من طبيعة نظامها المؤسساتي.

ما زلنا نُفاجأ ونُباغت،.. فيخيب أملنا ونمضي الفترة الرئاسية تلو الفترة الرئاسية ونحن نندب حظنا العاثر مع نفوذ «اللوبي الإسرائيلي».

عندما يفوز الديمقراطيون نتبرّم ونغضب، لأن الحزب الديمقراطي «كان دائماً الحزب المفضل عند اليهود الأميركيين». وبما أن لا نصيب لنا معه، تكون النتيجة أن نبتعد.. ونبدأ بدعم غريمه الحزب الجمهوري.

ثم ينتصر الحزب الجمهوري، ملاذ البيض البروتستانت الأنجلوسكسونيين ـ قبل أن يسيطر عليه اليمين المسيحي الأصولي ويهود «المحافظين الجدد» ـ فنخسر من جديد.. لأن مَن هم على قمة الحزب حريصون على أن ينأوا بأنفسهم عن تهم «معاداة السامية»، فيزايدون على منافسيهم الديمقراطيين في إرضاء إسرائيل، كما شاهدنا خلال السنوات الـ16 الأخيرة في عهدي بيل كلينتون وجورج بوش «الإبن». وهكذا، بينما يركب منشار «اللوبي الإسرائيلي»، كما يُقال «طالع نازل»، نخسر نحن ونهمّش أنفسنا.. فنستجدي عبثاً مَن يصغي إلينا في عاصمة القرار.

ولنعد إلى منطقتنا.

كان كلام أوباما إزاء سلاح إيران النووي واضحاً. وأغلب الظن أن الإدارة الجديدة التي يرجّح أن تستعين بعدد من الوجوه التي خدمت في إدارة كلينتون ستعتمد «مقاربات» مختلفة في سياساتها الشرق أوسطية وتجاه العالم الإسلامي.

الشيء الأكيد أن البصمات «الإسرائيلية» ستكون حاضرة بقوة في هذه «المقاربات»، وهنا يُفترض أن تتكشّف حقائق عديدة، بالرغم مما قد يترتّب على الانتخابات المقبلة في إسرائيل نفسها. في طليعة هذه الحقائق الموقف الحقيقي للقيادة الإسرائيلية من الملف النووي الإيراني. وهل هي على استعداد لعقد صفقة «تعايش إقليمية» مع إيران نووية، يُدفع ثمنها الأكبر في العراق ومنطقة الخليج،.. بل وفي لبنان أيضاً؟

ثم هناك الموضوع الفلسطيني. والجانب الذي يستحق رصده بعمق هو هل يقرّر اليمين الإسرائيلي، المرجح فوزه في انتخابات مطلع العام، تسريع السياسة «المستترة» القائمة على الهروب من استحقاق التسوية مع الفلسطينيين، إلى استمالة دمشق وطمأنتها، طالما أن المطلب الفعلي الأساسي لدمشق هو المحافظة على النظام ومصالحه؟

بعض من عايش مبادرات إدارة كلينتون ما زال يأخذ على القيادة الفلسطينية «تصلّبها» المزعوم في آخر مفاوضات ياسر عرفات ـ إيهود باراك، مع أن باراك بالكاد قدّم شيئاً يستطيع عرفات أن يسوّقه لشعبه.

اليوم، المنطقة في وضع أخطر بكثير مما كانت عليه في أواخر عهد كلينتون. وثمة أزمة ثقة عميقة، وراديكاليات غاضبة، وشوارع يائسة محبطة مستعدة للمجازفة بأي شيء. وما حصل في العراق، وللعراق، يقدّم «سيناريوهات» خطيرة لما يمكن ان تتعرض له كيانات المنطقة.

«المحافظون الجدد» سخروا كثيراً قبل ثماني سنوات من سياسات «بناء الدول» التي اعتمدها بيل كلينتون وإدارته بدءاً من البلقان، فخاضوا هم تجربة «تدمير الدول» بدلاً منها.

أمام الرئيس المنتخب أوباما في عهده الجديد خياران.. لا ثالث لهما.