أيام في اليمن

TT

واسعة هي الدنيا التي يمكن أن يزورها الإنسان، وقليلة هي الأماكن التي تحتضنها ذاكرة القلب، ويحتفظ بها الوجدان، فحينما قررت السفر إلى اليمن ذات يوم كنت محملا بما قرأته وسمعته عن اليمن، ولكن ليس من سمع كمن رأى.. كانت صنعاء محطتي الأولى، وما أدراك ما صنعاء، فلقد بدت هذه المدينة من الطائرة ككف صبية حسناء مخضب بالحناء يلوح لك مهنئا بسلامة الوصول..

في نهارات صنعاء يرافقك التاريخ وأنت تتجول في «باب اليمن» و«سوق الملح»، وإذا ما أرخى الليل سدوله تطفو المدينة على صواري الليل لؤلؤة يمانية، وينطلق الشجن العذب غناء.

في الطريق من صنعاء إلى مدينة «إب» كان سائق الحافلة اليمني ينتشي بالغناء:

«يا صاحبي وايش جاك منٌي

وتشوفني وتصد عني

حالي عسل نور باسترج به»

وكنا نتمسك بحبال صوته بحثا عن طمأنينة، ونحن نحدق في تلك الهوة السحيقة التي لا تفصلها عن إطار الحافلة سوى أن يجرح الغناء حنجرة المغني فيبدأ في التثاؤب.. جبال خضراء، ووديان، وقلاع سياحية، وتتقاذفك القرى قبل أن تجد نفسك في «إب»، المدينة التي جلب إليها أبناؤها المهاجرون روعة المعمار وحداثة الحياة لتختصر كل جماليات المدن، وبهجة الأماكن..

وإذا تجاوزت «إب» إلى «تعز» تجد نفسك أمام مدينة عصرية تقفز نحو المستقبل بثبات، يحفزها على ذلك ثراء بيئتها ووعي أهلها، ففي هذه المدينة مؤسسة علمية خاصة تحتل حيزا كبيرا من المشهد الثقافي والعلمي، فهي تمنح في كل عام ست جوائز، قيمة الواحدة منها مليون ريال يمني، توزع على المبدعين والعلماء من أبناء اليمن.

وكانت عدن مسك الختام.. هناك يتعانق الجبل والبحر، الحداثة والتراث، والماضي والآتي.. أهلها تعلموا من قانون المد والجذر على شاطئها الانفتاح على الغرباء ومستجدات الحياة.. وحينما رحت أعبر الدروب في «كريتر» و«التواهي» و«خور مكسر» و«المعلا» كنت أسأل الذات كم مرت على هذه الدروب قوافل الأيام، وكم أناخت ركائب الفرح.. وأرحل من عدن يلاحقني مطلع قصيدة طويلة من الشعر الشعبي سكبها بائع العسل العدني الهرم على مسامعي في السوق:

«تشتي تغادر عدن

كيف القلب بيطيعك»؟.

[email protected]