أوباما.. الحصان الأسود

TT

قيمة فوز باراك حسين أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، هي قيمة حضارية وإنسانية قبل كل شيء آخر، إنها ذروة من ذرى الحرية والتطور الإنساني الاجتماعي السياسي. ذروة وصل إليها الأمريكيون قبل العالم كله، كما وصلوا إلى القمر.

فوز أوباما الكاسح جعل العالم كله شريكا في ليلة الانتخاب التاريخية، بشكل لا مثيل له، حتى أن مجلة الـ«نيوزويك» الأمريكية عنونت موضوعها الرئيسي قبيل ظهور النتائج بـ«آمال العالم في رئيسه الأول». وقال أحد كتاب «الغاريادن» البريطانية: «كمية الدموع التي سكبت فرحا بفوز أوباما قد تكون الأكثر بتاريخ البشرية».

انتخابات رئاسية تاريخية في كل شيء، كما قال حتى مقدمو البرامج الكوميدية الأمريكية، ولم يستح احد ابرز نجومهم، جون ستيوارت، من القول بأنه بكى تأثرا بفوز أوباما.

انتخابات اختلطت فيها فرحة مناهضي العنصرية بوصول الفتى الأسمر ابن المهاجر الكيني إلى المكتب البيضاوي، وجلوسه على عرش الكرة الأرضية، مع مشاعر كارهي سياسة بوش والمحافظين، مع مشاعر الذعر من الأزمة المالية الحادة، والتي ترى ـ حقيقة أو وهما ـ أن أوباما هو كهفها الذي تلوذ به من فيضانات الانهيار والإفلاس، مع مشاعر المعادين لفلسفة صدام الحضارات.. مشاعر كثيرة ومتنوعة جعلت من أوباما ظاهرة عالمية أطلق عليها البعض «أوبامانيا».

منظر القس جيسي جاكسون، وهو يذرف الدموع الساخنة أثناء إلقاء باراك أوباما لخطاب النصر، كان هو المنظر الذي لخص قصة الكفاح الطويل لحركة الحقوق المدنية السوداء في امريكا والتي كان مارتن لوثر كنغ ألمع نجومها عبر صرخته الشهيرة التي ترن في مسامع أمريكا: «لدي حلم». ولم تكن الدموع المراقة دموع القس الاسود فقط بل دموع كل من رأى في فوز أوباما تجسيدا للحلم وكسرا للمستحيل واختراقا للدائرة المغلقة، وهي دموع من كل الألوان.

لا مناص من الإقرار بالجانب المؤثر والوجداني في انتصار باراك حسين أوباما، وأنا مصر على إيراد اسمه الثلاثي حتى نتذكر دوما اسم والد رئيس أمريكا! لذلك فالحديث في طبيعة سياسة الرئيس الجديد، وما هي ملامح خططه السياسية الخارجية أو الداخلية، يعتبر حديثا مؤجلا أو تابعا إلى ما بعد احتفال العالم، كل العالم، بانتصار القيمة الإنسانية في إيصال الناخب الأمريكي، وبقوة كاسحة، هذا الشاب الامريكي ابن المهاجر الكيني، الى مقعد الرئاسة العظمى في العالم.

لحظة! هل قلت كل العالم احتفى بانتصار باراك؟ للدقة هناك شخص لم يعجبه فوز أوباما، وحتى لا يذهب الظن بعيدا فهذا الشخص ليس من العنصريين البيض في أمريكا او خارجها، أو من أنصار الفوبيا الإسلامية وتكريس التخويف من أي شيء فيه شبهة مسلم، بالعكس، فهذا الشخص من أكثر الناس الذين يبشرون بالإسلام ويراه كثيرون في العالم الإسلامي رمزا للإسلام السني ـ الفقهي ـ هل عرفتموه؟ نعم، إنه الشيخ يوسف القرضاوي، الذي كان أول المطلقين لتحذيرات الخوف والريبة من أوباما، وقال الشيخ القرضاوي كما نسبت إليه عدة مواقع إسلامية، منها (إسلام اون لاين) و(مفكرة الإسلام)، إن أوباما ليس إلا «حية ناعمة الملمس»، واعتبر أن أوباما خطر على الإسلام والمسلمين، لافتاً إلى أن ماكين عدو صريح سيجعلك تحدد مواقفك بوضوح. ووصف القرضاوي أوباما بـ«المنافق» و«عدو المسلمين» وبأنه يرتدي قناع الاعتدال بدون أن يكون كذلك.

أما جون ماكين، الخاسر، فهو في نظر القرضاوي : «أفضل من أوباما، لأنه يمثل عداءً واضحاً وصريحاً للمسلمين بدون نفاق أو مواربة، ما يتيح لك فرصة المواجهة».

لقد أصاب القرضاوي في تشخيصه! وتكلم في لحظة تجل وبعيدا عن لغة الإخوان المسلمين المواربة، ربما لأنه يرى أنه رمز للأمة الإسلامية كلها وليس للإخوان فقط، تكلم بلغة أوضح وأكثر مباشرة من لغة مرشد الجماعة مهدي عاكف الذي قال إنه يرجو من الرئيس الفائز «أن يغير سياسة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط»... الخ.

القرضاوي، وكل أنصار فكرة «الممانعة» الحضارية، والتي هي تلطيف وتجميل لفكرة «التقوقع» والانعزال عن العالم، وتخليد للتخلف على مستوى الفلسفة الإنسانية والانخراط في عصر ثقافة حقوق الإنسان، والبعد عن المعايير القائمة على مقاسات رجال الدين وكل المحافظين على القديم الفكري والاجتماعي والثقافي، فقط لأنه قديم!.. هؤلاء «الممانعون» لا يسرهم فقدان الأجواء التي ينشطون فيها، وهي أجواء الصدام والتوتر، أوباما لا يعطيهم هذه النكهة، لكن جون ماكين يعطيهم هذه الذريعة، لذلك، وبلسان حالهم وقولهم، فمرحباً بماكين ولا مرحباً بأوباما، وهذا المنطق يذكرني بحالة الهيجان التي قادها الشيخ القرضاوي في أثناء حملة الرسوم الدنماركية، وهي حملة جاوزت المعقول والطبيعي، واذكر أن الشيخ القرضاوي أبدى صراحة حينها (مارس 2006) راحته لمفاعيل تلك الأحداث لجهة «حاجة الأمة إلى منبهات تنبهها من الركود، وأن ما حدث هو محرك للأمة».

وها هو اليوم يبدي انزعاجه لقوة الدفع الأخلاقية التي ولدها فوز باراك أوباما، هذه القوة التي تدفع باتجاه التواصل بين بني البشر، بصرف النظر عن الدين واللون، وهي ثقافة متجاوزة لفكرة الهوية المنغلقة الممانعة، باعتبار الشيخ القرضاوي من حماة هذه الممانعة المتوترة.

كلُّ، أو جلُّ، ما قيل أو سيقال هذه الأيام حول «التسونامي الاوبامي» سيكون في سياق التبصر والاعتبار الإنساني الأخلاقي العام، لأن فوز أوباما حدث يتجاوز كونه مجرد انتخابات أمريكية رئاسية، فهي انتخابات شارك فيها العالم كله وتابعها أكثر من الأمريكيين أنفسهم، كما نقلت الـ«نيوزويك» عن مسؤولي إذاعة صوت أمريكا التي قالت إن حجم الاهتمام العالمي بانتخابات أمريكا غير مسبوق في تاريخ هذه المحطة الإذاعية الكبرى، وكما أوردت إحصائيات المتابعة والاهتمام في العالم، فجلها كان اكثر من اهتمام المواطن الامريكي نفسه، رغم اهتمام هذا الاخير الكبير بها حسب الارتفاع المميز جدا لنسب الناخبين المدلين بأصواتهم. مفاعيل هذا «التسونامي السياسي والاجتماعي» ستتبين يوما وراء يوم، وكما نقلت المجلة عن أحد المراقبين الصحافيين المغاربة فإن من الممكن الآن للعالم أن يقر لأوباما بقيادة العالم، عكس بوش، وربما أطلق فوز أوباما حركة عالمية ستتخطى الحدود الأمريكية بعدما أعاد العالم الاعتراف بقيادة أمريكا ورعايتها لقيم الحرية والمساواة، أفضل رعاية، كما أشار ديفيد لامي وزير الدولة البريطاني للتعليم العالي، وهو رفيق أوباما.

هذه المقاربات الأخلاقية والحضارية لفوز أوباما هي ما قيل او سيقال إلى هذه اللحظة، وهو أمر طبيعي جدا في ظل هذا الحدث التاريخي الكبير والمؤثر، غير أن حديث السياسة وقراءة مرحلة بوش، بعيدا عن إدمان الهجاء والشتم له، والإحالة إلى عثرات لسانه أو طريقه حديثه أو السخرية من صوته، بعيدا عن هذا كله، وبعيدا عن التقويم المتشنج للمرحلة البوشية، أو الانخراط في موضة شتم بوش، هذا الشتم الذي أصبح وكأنه جزء لا يتجزأ من مكملات و«إكسسوارات» التقدمي في العالم، فهو الذي يرتدي (تي شيرت) عليه صورة تشي غيفارا، ويسخر من دبليو بوش، وحتى ولو لم يكن معنيا، أو تكون معنية، بألف باء السياسة، او متابعا للأحداث والأخبار في الدنيا، هذه «الشخصنات» التي هي مقبولة في البرامج الكوميدية الساخرة، لدرجة أن مقدم البرنامج السياسي الساخر جون ستيوارت قال بمزيج من الضحك والتحسر إنه سيشتاق للحظات «تقليد بوش»! لكنه غير مقبول في الحديث الجاد والهادئ، أن يتحول الجميع إلى مقدمي برامج ساخرة، وتصبح ملاحظات البرامج الساخرة هي نفسها ما يقال، أو قريبا منها، في النقد الإعلامي الجاد لسياسة بوش، هذه مشكلة، وكأن الشعب الأمريكي، نفسه، ليس هو الذي أوصله إلى البيت الأبيض، وبفوز مميز في الفترة الثانية من رئاسته.

بكل حال، يبقى أن تقديم قراءة هادئة لمرحلة الرئيس بوش، والكيفية التي واجه بها الإرهاب في العالم، وغزو أفغانستان والعراق وعملية السلام، وسياسته في أوروبا ومع روسيا والصين، وفكرة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والعالم الثالث، وغيرها من الملفات الضخمة، والبحث عن: أين أخطأ وأين أصاب في هذه الملفات، ستبقى حاجة ملحة وضرورية، لكن كل هذا الكلام: قراءة مستقبل أوباما، وتحليل ماضي بوش، لن يتأتى إلا بعد هدوء أصوات الفرح والتهليل لانتصار قصة كبرى من قصص الحلم الأمريكي التي تلهم العالم كلما خبت شعلة الأحلام وترمدت نار الخيال، وهو، باراك أوباما، الحصان الأسود، يخترق الصفوف ويأتي من الخلف، من الخلف جدا، ليحرز النصر ويثبت انه «نعم نستطيع أن نغير».