أجندة أوباما

TT

سيبقى يوم الرابع من نوفمبر يوما تاريخيا إلى الأبد، فإن لم يهز كيانك انتخاب أول رئيس من أصول أفريقية، وإن لم تنهمر دموعك على وجنتيك تيها بوطنك، فلا بد أن هناك عيبا ما بداخلك.

ولكن هل يعد انتخاب أوباما نقطة تحول في الجوهر الحقيقي للسياسة الأميركية؟ وهل بمقدور أوباما، حقا، أن يقود البلاد إلى عهد جديد من السياسات التقدمية؟ أعتقد أن بمقدوره ذلك.

يميل بعض المعلقين الآن إلى حث أوباما على التفكير بترو، فالبعض ينطلقون من أسس سياسية بأن أميركا، كما قالوا، لا تزال دولة محافظة، والناخبون سيعاقبون الديمقراطيين إذا ما تحركوا باتجاه اليسار، بينما قال آخرون أن الأزمة المالية والاقتصادية لم تترك حيزا للتحرك على صعيد آخر، كإصلاح برنامج الرعاية الصحية، على سبيل المثال.

لكن دعونا نأمل في أن يتجاهل أوباما تلك النصيحة.

وعلى صعيد الجدل السياسي: فإن من يشكك في إعادة تصحيح الأوضاع الكبيرة التي حدثت، عليه أن يتذكر ما حدث في انتخابات الكونغرس من قبل. ففي أعقاب انتخابات عام 2004، خرجت العديد من التصريحات لتقول، إننا دخلنا فترة هيمنة جمهورية طويلة المدى أو بالأحرى دائمة، غير أن الديمقراطيين منذ ذلك الحين حققوا انتصارات متتالية حيث حصلوا على 12 مقعدا في مجلس الشيوخ وأكثر من 50 في مجلس النواب، والآن يستحوذ الديمقراطيون على الأغلبية في كلا المجلسين، وهو الأمر الذي لم يتمكن الحزب الجمهوري من تحقيقه في الأعوام الثني عشر التي حكم فيها.

كما كانت انتخابات الرئاسة هذا العام استفتاء واضحا على الفلسفات السياسية، ربحته الفلسفة التقدمية.

وربما كانت الطريقة المثلى لإبراز أهمية تلك الحقيقة هي مقارنة حملة هذا العام بما حدث منذ أربع سنوات، ففي عام 2004 حجب الرئيس بوش أجندته الحقيقية، وأظهر نفسه كمدافع عن بلاده ضد الإرهابيين، مما جعله يترك مناصريه في حيرة عندما أعلن في أعقاب انتهاء الانتخابات أن أول أولوياته سيكون تجاه خصخصة الضمان الاجتماعي، وهو ما لم يعتقد الناخبون أنهم صوتوا من أجله، وانقلبت حملة الخصخصة سريعا من قوة ساحقة إلى مسرحية هزلية.

وكانت دعائم حملة أوباما تقوم على الرعاية الصحية وخفض الضرائب عن الطبقة الوسطى، لكن ماكين اتهم منافسه بأنه اشتراكي و«يحاول إعادة تقسيم الثروات»، لكن أميركا صوتت له على أية حال وهو ما يعد تكليفا حقيقيا.

لكن ماذا عن الرأي القائل إن الأزمة الاقتصادية ستجعل تحقيق تلك الأجندة التقدمية أمرا غير ممكن؟ لا شك في أن مجابهة تلك الأزمة ستتكلف الكثير من الأموال، وربما يتطلب إنقاذ النظام المالي إنفاقا يفوق حجم ما أنفق حتى الآن، ويأتي على رأس ذلك، الحاجة الماسة إلى برنامج إنفاق حكومي متزايد لدعم الإنتاج والتوظيف، وهل من الممكن أن يصل العجز في الموازنة الفيدرالية العام القادم إلى تريليون دولار؟ نعم.

لكن معايير علم الاقتصاد تؤكد إمكانية إدارة العجز المؤقت على الرغم من الاقتصاد المتأثر بالكساد. ففي تلك الفترة من العجز، والتي قد تمتد إلى عام أو عامين، والتي ستضيف إلى نفقات الفائدة الفيدرالية المستقبلية، يجب ألا يحول عجز الميزانية دون المضي في خطة الرعاية الصحية، حتى وإن سنت القوانين لذلك بسرعة، والتي يحتمل ألا تدخل إلى مرحلة التنفيذ إلا في عام 2011.

وما سوى ذلك، فإن ردة الفعل تجاه الأزمة المالية، في حد ذاتها، تعتبر فرصة للتقدم باتجاه تفعيل الأجندة التقدمية.

ويجب على إدارة أوباما الآن ألا تنتهج عادة إدارة بوش في تحويل أي شيء وكل شيء إلى نقاش حول سياساتها المفضلة (الكساد؟ الاقتصاد بحاجة إلى المساعدة ـ دعونا نخفض الضرائب عن الأغنياء! الانتعاش؟ خفض الضرائب عن الأغنياء أثبت فعاليته، فدعونا نقوم بالمزيد!).

كما سيكون من الإنصاف أن تقوم الإدارة الجديدة بإبراز كيف كانت الآيديولوجية المحافظة، والتي كانت تنظر إلى أن الجشع خصلة محمودة، وأنها كانت السبب وراء تلك الأزمة. وأن ما قاله F.D.R في خطابه الثاني ـ عندما أوضح بقوله: «لقد علمنا على الدوام أن الأنانية الحمقاء أخلاقيات سيئة، ونحن نعلم أن هذا علم اقتصاد سيئ» ـ لم يتحقق.

وما يقع الآن هو أحد تلك الأوقات التي يكون فيها العكس صحيحا وتكون الأخلاق الحميدة علم اقتصاد جيد. فمساعدة المحتاجين في وقت الأزمات عبر توسيع مظلة رعاية البطالة والصحة أمر صائب أخلاقيا، كما أنه يعتبر حافزا اقتصاديا أكثر فعالية من خفض ضرائب أرباح رأس المال. وتقديم المساعدات للدولة المتضررة والحكومات المحلية كي يتمكنوا من دعم الخدمات العامة الأساسية، أمر ضروري لهؤلاء الذين يعتمدون على تلك الخدمات، كما أنها طريقة أخرى لتجنب فقد الوظائف وتحجيم عمق الكساد الاقتصادي.

ومن هنا، فإن الأجندة التقدمية ـ التي تسمى الاتفاق الجديد ليست ممكنة، فحسب، بل إنها هي ما يحتاجه الاقتصاد.

خلاصة القول، يجب على باراك أوباما ألا يستمع إلى أولئك الأشخاص الذين يخيفونه فيوقفونه عن طرح أي مبادرات للتغيير. إن أوباما لديه تفويض سياسي من الأميركيين، وإلى جانبه الاقتصادات الجيدة، وربما وجب علينا أن نقول إن ما يجب أن يخشاه أوباما هو الخوف ذاته.

* خدمة «نيويورك تايمز»