الأمثولة الأميركية للأنظمة الطاعنة في البقاء

TT

حسمت الولايات المتحدة، التي يضيِّع بعض العرب والمسلمين الوقت في التنظيرات حولها والتركيز على أنها «دولة الاستكبار»، الأمر وأكدت يوم الثلاثاء 4 ـ11 ـ 2008 انها شعباً ومؤسسات هي أفضل رموز العمل الديمقراطي الحر في العالم، بينما إخواننا في العراق يخوضون جدالات عقيمة في شأن معاهدة ينظر إليها بعض أولي الحكم والشأنين الشعبي والديني على انها تنتقص من السيادة ويتناسى هؤلاء أن إسقاط النظام الصدَّامي كان عبارة عن تمنيات لهم لكنه كفِعْل كان من صُنْع غزو أميركي تحوَّل الى احتلال مقبول من هؤلاء الذين يعارضون المعاهدة وإن كانوا ضمناً في حالة امتنان لأن الرئيس جورج بوش الابن وحلفائه توني بلير البريطاني، وأزنار الإسباني، برلسكوني الإيطالي، وبعض صغار الحكام من الأوروبي الى الكندي الى الأسترالي، هم من أسقطوا لهم نظاماً كان من العسير عليهم إسقاطه بدليل ان أنظمة عربية طاعنة في البقاء لم تزحزح سطوتها السياسية ولا هيمنتها الأمني حركات المعارضة التي بعضها فولكلوري الطابع.

كما أن أهلنا في لبنان ما زالوا في حالة من العبث السياسي يتصدره بامتياز رموز الطائفة المارونية التي كانت في زمن زعامات عاقلة وحكيمة تشكل صمام أمان، ثم إذا بنا أمام محطات في المشهد السياسي يؤكد فيه زعماء في الطائفة المارونية أنهم لم يكونوا رجال دولة وربما لن يكونوا.

وأما إخواننا في فلسطين فإنهم على ما هم عليه من تبذير للقضية يواصلون فصْم عراها وإلى درجة انهم يعالجون الخطأ بالخطأ، فلا اتفاق مكة المثالي التزموا به، ولا المبادرة المصرية استوعبوا توازنَها، ولا تمنيات القابعين في مجاهل المخيمات المزرية بين لبنان وسورية والأردن والأراضي الفلسطينية بالتفاهم لقيت في النفوس شيئاً من التفهم.

وأما إخواننا في إيران فإنهم عن واقع الأمر ساهون يكيلون التقريع لقوى الاستكبار الاميركي منتظرين وقفة إنصاف تأتيهم من أوباما الذي لن يرتضي نوويتهم لكنه سيكون اكثر رفقاً بمرونة تصدر عنهم وتكون مثل المرونة الاضطرارية من جانب الإمام الخميني عندما وافق متأخراً على وقف الحرب مع العراق واصفاً قراره بأنه كمن يتجرع السم.

وحتى إذا قرر الرئيس بوش في ما تبقَّى له من اشهر الترؤس التي تنتهي بتنصيب الرئيس الجديد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 2009 إيجاد مكان له في تاريخ الحكام كأن يوجه ضربة الى ايران تتسبب لها بالخلخلة وتدمير مواقع عسكرية واستراتيجية وتتزامن مع هذه الضربة أو تستبقها قمة دولية ـ عربية ـ إسلامية ـ فاتيكانية يستضيفها ويعلن فيها قيام دولة فلسطين القابلة للعيش الى جانب دولة إسرائيل، فإن أوباما سيكون مع هذا الخيار أو على الأقل لن يعترض عليه.

وبالنسبة الى إخواننا في السودان فإنهم ايضاً ساهون عن حقيقة أن بقاء الأحوال على ما هي عليه من دون حسم مسألة التهويل القضائي وإحتمال تطبيق إجراء قضائي في حق رئيس البلاد، وأكاد أقول رئيس بعض البلاد، من شأنه تحويل السودان الى ساحة صراع لن يكون أوباما أقل تشدداً فيه من الرئيس المنصرف بوش الابن وخصوصاً في حال تكررت واقعة استهداف الصينيين العاملين في شركة نفط صينية خطفاً ثم قتلاً، وقررت الصين ان تحمي رعاياها النفطيين من خلال معاهدة تجيز لها ارسال قوات الى السودان.

هذا الى جانب ان اصرار سيلفا كير النائب الأول لرئيس الجمهورية والمتأثر كما قيادات افريقية كثيرة بالظاهرة الأوبامية على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية ضد الرئيس عمر البشير، يعني في نظرنا ان عقيدة «تحرير السودان» التي طرحها كبير الجنوبيين الراحل جون قرنق ما زالت واردة وان الجنوبي يرى انه ما دام من حقه ان يكون احد ابناء الجنوب (وهو هنا سيلفا كير) نائباً اول لرئيس الجمهورية فمن حقه ايضاً ان يكون ايضاً هو الرئيس.

ألم يحدث ذلك في العراق عندما اصبح الزعيم الكردي جلال طالباني هو رئيس الدولة ومِن قبل ان يصبح باراك أوباما الشاب الكيني الوافد الى بلاد العم سام عضواً في مجلس الشيوخ بكده واجتهاده ثم تُوصله الأقدار الى ان يكون الأسود الأول الذي يحكم أميركا، حاملاً الرقم 44 مدشناً ظاهرة ان رئاسة البيت الأبيض حق للأسود كما للأبيض ما دام اميركياً.. وربما لاحقاً للأصفر ذي الجذور الصينية والفيتنامية وربما كذلك من يدري للهندي الأحمر الذي اغتصب له الأميركي الأبيض أرضه وقد لا يجد ما يعوِّضه ذلك سوى الجلوس في المكتب البيضاوي مزيلاً وصمة اغتصاب الأرض وعلى نحو ازالة أوباما لظاهرة ان السود هم عبيد البيض والشُقر في الولايات المتحدة الأميركية.

وأما إخواننا في الجزائر فإن شغلهم الشاغل الآن هو إجراء تعديلات في الدستور بحيث يتمكن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من تجديد الولاية الرئاسية للمرة الثالثة، وذلك لأن الدستور الحالي يمنع الترشُّح لأكثر من ولايتين. وأما موجبات الرغبة بالتجديد فإن سي عبد العزيز الذي يترأس منذ العام 1999 رافعاً شعار «الوئام المدني» ثم «المصالحة الوطنية» فاجأنا بأنه ألغى تسمية «رئيس الحكومة» مستبدلاً إياها بـ«الوزير الأول» كي تكون كلمة «الرئيس» لشخصه فقط. كذلك فاجأنا بأنه شخصياً تحدَّث يوم الجمعة 31 ـ 10 ـ 2008 لمناسبة مرور 54 عاماً على نهاية حرب التحرير من الاستعمار الفرنسي عن إنجازاته بالقول إن الجزائر تمكنت بفضل سياسته من إرساء دعائم تنمية شاملة «لا ينكرها إلاّ حاسد أو متطير متشائم النفس».

ولقد فاجأنا الرئيس بوتفليقة بخطوته هذه لأنه في وضع صحي لا يخلو من الدقة بالنسبة الى عمره (71سنة)، وهذا يعني بالنسبة الى رجل حكيم مثله ان يهيئ وئامياً يخلفه على نحو ما فعل نيلسون مانديلا، لا ان يرى انه لماذا لا يكون من الرؤساء المستديمين الطاعنين في البقاء على رأس السلطة، ما دام جاره العقيد معمر القذّافي يترأس ليبيا للسنة التاسعة والثلاثين على التوالي ويهيئ في الوقت نفسه أحد أبنائه مثل سيف الإسلام لخلافته، وما دام جاره الآخر زين العابدين بن علي يترأس تونس تحت مظلة «التحول» للسنة العشرين على التوالي، وصديقه الرئيس علي عبد الله صالح يترأس اليمن للسنة الثامنة عشرة على التوالي ويقوم بتحضير الابن أحمد لكي تبدأ به الأسرة اقتباساً لما سبق وكان البادئ به الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي بالابن بشَّار بدأت الأسرة الأسدية الثانية، وكاد يأخذ بالاقتباس نفسه الرئيس صدَّام حسين لكي تبدأ بـ «الأمين» و«المأمون» أي بالإبن عدي يليه قصي أو بأحدهما أو بالثاني يسبق الأول الأسرة الصدَّامية لولا ان بوش الابن استأصل الحالة من جذورها بعدما غزا العراق وأخذ جنوده على عاتقهم إنزال تمثال صدَّام وتأمين عملية شنقه عقب سقوط الابنين قتيلين في مواجهة في منزل في الموصل احتميا فيه لكن الحامي وشى بهما.

وقد يقال إن بوتفليقة شأنه شأن بن علي وعمر البشير يتمسكون باستمرارية الترؤس لأنه لا أبناء ورثة لهم، ولأنهم يتمسكون فلماذا لا يكون التجديد ولماذا لا يتم تعديل الدستور. وهل ان الآخرين وبالذات في لبنان التزموا بنصوص مواد الدستور لكي يبدو ما فعلوه اساءة الى قدسية الدستور.

نعود الى ما بدأناه لنقول إن الدولة الأعظم، الولايات المتحدة، حسمت في ظل أجواء من الحرية والديمقراطية وخلال أربعة اشهر امرها واختارت في معركة لم تحدث فيها ضربة كف من جمهوري لديمقراطي أو العكس رئيساً دخل التاريخ وساعده على الفوز المبين أن للاسم رنة موسيقية محببة على النفس الأميركية وأن أم الكوارث المالية حدثت بسبب سياسات الجمهوري بوش الابن، وربما لولا هذه الكارثة لما كان للظاهرة الأوبامية ان تحدث.

أما بعضنا في العالم الثالث فإنه في حالة من اختلال الوزن والعقل معاً. ولا علاج للحالة إلاّ برئاسات لا تتجدد أكثر من مرة في الحد الأدنى ومرتين لا ثالثة لهما وباحترام للدساتير لا يتلاعب بها أحد، وبحيث لا يبقى الدستور في خدمة الطاعنين في البقاء وإنما في خدمة التجدد... وعلى نحو ما حدث في بلاد العم سام.