أبعاد أخرى للانتخابات الأمريكية!

TT

انتهت الانتخابات الأمريكية ووصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، أو أنه يستعد لدخوله، وربما كان جوهر الانتخابات ونتيجتها هو صراع الذات الأمريكية مع ميراثها العرقي، حيث عاشت معصية التمييز العنصري جنبا إلى جنب مع التقاليد الليبرالية حيث المساواة والحرية؛ أو أنها كانت حول فشل جورج بوش الكامل في كل ما وصلت إليه يداه من قضايا أمنية واستراتيجية، ومن العراق حتى أفغانستان حتى جبال تورا بورا الجهنمية. ومن الجائز جدا أن العالم قد بات عصيا على الفهم والإدارة السياسية أو الاقتصادية، ولم يعد هناك ما يمكن عمله إلا أن يحضر إلى قلب القرار العالمي من لديه عقل الحكماء وبراءة الأطفال معا حيث يمكن إدراك الحكمة من أقصر الطرق. كل ذلك بات ممكنا وإن لم يكن مؤكدا، وفى ظهر اليوم العشرين من يناير القادم سوف يصل ساكن البيت إلى حيث وصل ثلاثة وأربعون قبله لكي يدرك مصيره وقدره، وساعتها قد يكون العالم أكثر يقينا مما كان عليه الحال طوال العام الذي سبقه حيث كانت الدنيا بلا مركز لصناعة القرار، ومن شاهد جورج بوش وجماعة المحافظين الجدد تتساقط من حوله، والحيرة المستبدة بوجهه وعباراته يدرك إلى أي مدى كان السقوط مدويا.

ورغم أن أحدا في واشنطن لم يكن أبدا على استعداد للاعتراف بالحقيقة المرة، فقد كان غياب واشنطن السياسي عن مواقع الأحداث في العالم ثم انهيار وول ستريت في نيويورك شهادة على غياب القرار الاقتصادي هو الآخر، لم يدفع قيادة عالمية أخرى لكي تبلغ الساحة حيث كانت اللحظة مناسبة تماما لبروز العالم المتعدد الأقطاب المنتظر منذ زمان بعيد. ولكن أحدا لم يحضر فقد انكمشت الصين على نفسها خوفا على 1.8 تريليون دولار تمتلكها ولكنها لا تعلم ماذا سوف تفعل بها لو انهار العملاق الأمريكي؛ وعندما مدت روسيا قبضتها العسكرية إلى جورجيا لم يكن الأمر أكثر من تحرك بلطجي صغير استغل فرصة غياب فتوة الحي لكي يثبت الوجود، وجاء انهيار البورصة في موسكو بنسبة الثلثين لكي تثبت أن «اللعب مع الكبار» أو لعب ألعاب الكبار لها تكاليف باهظة. وحتى أوروبا التي انتظرت طويلا لحظتها التاريخية لم تنتهزها عندما جاءت، وعلى العكس راحت تبحث بين النجوم عن علامات وإشارات مطمئنة بقدوم المبشر أو المصلح الذي عندما يأتي تنضبط الساعة ويصلح الزمان. وكان لدى أوباما كل العلامات، وكل الإشارات، وحتى الأصل والفصل والقصة التي ليس مثلها قصة لأم بيضاء كاللبن الحليب تتزوج من كيني أسود كالليل، وبعد انفصال المسيحية عن المسلم ذهبت إلى مسلم آخر لكي يأخذها مع طفلها إلى إندونيسيا ليعيش فترة الطفولة، ومن بعدها يذهب الغلام إلى حيث صممت أقدار في هاواي لكي يستمر في الإطلال على القارة الأمريكية البعيدة من قلب المحيط العميق الأغوار.

هل هناك صدف وأقدار أكثر من ذلك، كانت كل الأحداث قابلة للانكسار والعودة من حيث أتت لو كانت للكيني أو الإندونيسي رواية أخرى؟ ولكن أوروبا ظلت منتظرة، وعندما زار أوباما برلين حضر له مائتا ألف من المريدين، بأكثر ممن حضروا قبل خمسة عقود عندما جاءوا مشدوهين لمشاهدة رئيس أمريكي آخر ـ جون كنيدي ـ وهو يخطب مطالبا بارتفاع الستار الحديدي، وهدم السور الذي يفصل برلين الشرقية عن الغربية. هذه المرة لم يكن هناك لا ستار ولا سور وإنما عالم ممتد حتى إلى ما بعد جبال الأورال حيث الاتحاد الأوروبي ينشر أسواقه وروابطه ومؤسساته، ولكنه لا يزال منتظرا العلامة والإمارة والإشارة من خلف المحيط الأطلنطي من حيث جاء أوباما الذي مشى البحار والمحيطات صبيا وغلاما حتى جلس بين يدي المعلمين والمرشدين في جامعتي كولومبيا وهارفارد.

ولكن الانتظار والاختيار لم يكن عالميا فقط، وإنما كان أمريكيا كذلك؛ وللحق فقد كان الاختيار الأمريكي صعبا، فقد كان اختيارا بين مغادرة الماضي والبدء من جديد وعلى صفحة بيضاء يكتبها رئيس أسود هذه المرة؛ واختيارا بين نوعين من الأبطال في مجتمع لا يقدس شيئا قدر البطولة. فقد كان جون ماكين بطلا بكل معنى الكلمة، فقد جاء من أسرة كلها من الأبطال العسكريين الذين دافعوا عن أمريكا جيلا بعد جيل، ومن حرب وراء حرب، وكان هو ذاته طيارا خاض حرب فيتنام بقلب جسور حتى وقع في الأسر وعاش عذاباته وأهواله وعندما عرض عليه أن يفك أسره إكراما لعائلته وأبيه الأدميرال النافذ إلى أعلى الدوائر الأمريكية اختار أن يكون الإفراج عنه مع زملائه. وحتى بعد خروجه لم يكن مستعدا أن يكون أدميرالا آخر في أسرة امتلأت أكتافها بنجوم الأدميرالية، وإنما أن يكون «خادما عاما» في الكونجرس الأمريكي. وهكذا اكتملت له كل شروط البطولة، واجتمعت فيه خصائص جون واين، وكل من جاءوا بعده لكي يمثلوا أدوار البطولة في حياة أمريكية تشحب فيها الخطوط الفاصلة بين هوليوود والحياة العامة، وتبقى في كل الأحوال غامضة ومفضوحة في آن واحد.

وباختصار كان جون ماكين يمثل البطل الأمريكي الكلاسيكي كما يولد كل الأبطال، ولكن باراك أوباما كان بطلا آخر تكمن أسرار بطولته في أنه لم يكن بطلا قط، فلم يقبض على مجرم، ولم يخض حربا، ولكن ميدان قتاله البسيط كان أحياء شيكاغو الفقيرة. وربما كانت زوجته ميشيل هي أول من قربه من النضال حيث أتت من عائلة «زنجية» حقيقية، يعيش عائلها الفقر والمرض والعمل الشاق، ومع ذلك يستطيع أن يرسل ابنته إلى جامعتي برنستون ثم هارفارد. وببساطة كان كلاهما نتاج «الحلم الأمريكي» في أكثر حالاته صفاء حيث تكون البطولة هي إدراك الحلم المتاح، وانتهاز الفرصة بالامتياز والعمل الشاق، والوصول إلى السماء والبيت الأبيض إمكانية مدهشة نعم، ولكنها ليست بعد المحال.

ولم يكن الاختيار بين البطلين سهلا، وأمريكا، وحتى العالم، تعشق البطل الكلاسيكي المختلط بالنار والمخضب بالدم، وعندما تختلط البطولة بالحكمة والخبرة السياسية والقتالية، فربما كانت «الخلطة» في النهاية مثالية. والمشكلات في الأول والآخر كانت من التعقيد بحيث يستحيل وضعها بين يد أحلام قد تنتهي إلى كوابيس مروعة؛ أو لا يبقى منها شيء إلا الضعف وقلة الحيلة. وهل ينسى الأمريكيون جيمي كارتر الذي جاء من قلب المجهول حاملا صفاء قلب ورافعا ذنوب فيتنام ولكنه ترك أمريكا والعالم في النهاية فريسة أعداء لا ترحم تتمدد في أمريكا الجنوبية وفي القرن الأفريقي وفي أنحاء آسيا، وهذه المرة فإن العدو امتد حتى وصل إلى نيويورك حتى واشنطن ذاتها، يفجر الأبراج، ويصل إلى أسوار البنتاجون؟

ومع ذلك اختارت أمريكا بطلها الآخر، المودرن صاحب الجذور الأفريقية الآسيوية الباسيفيكية الذي عاش حياة الغرب الأوسط، ومشى في كامبريدج على الجانب الآخر من نهر تشارلز في بوسطون حيث تتخبط أكتاف الحاصلين على جوائز نوبل مع نسمات العلم والمعرفة. وعندما أعلنت النتيجة تنفس العالم الصعداء لأن فرصة جديدة قد فتحت، ولكن الحقيقة أن لا أحد يعرف ماهية هذه الفرصة، وفي منطقتنا كان هناك من يعتقد أن أمريكا انتقلت من بلاد العم سام إلى بلاد العم حسين. ولكن الحقيقة أعقد من كل أنواع التبسيط، فالإدارة الجديدة تأخذ الكثير من أنفاس حاكم شاب آخر هو بيل كلينتون حتى لو كان الزمن تغير، والدنيا لم تبق على حالها، فلا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولا كان بن لادن لا يزال قابعا في الكهوف الآسيوية، ولا كانت أسواق المال قد انحدرت إلى ما انحدرت إليه، ولا كان «الموبايل» قد وصل إلى جيله الثالث، ولا كان «الهولي جرام» قد تم تطبيقه بعد. وبشكل ما يبدو القادمون كما لو كانوا قد استيقظوا من عصر مضى وعليهم الآن أن ينظروا فيما جد من فعل الإنسان والطبيعة والأقدار. ومن يعش سوف يرى كثيرا!