الكرسي الدوار

TT

لا أعرف التاريخ الذي اخترع فيه أول كرسي دوار، ولا من اخترعه، لكن المؤكد أنه من اختراع شخص ساحر ماكر داهية، جعل تلك الكراسي الدوارة تصيب الكثير من الجالسين عليها بالدوار، بحيث لم يعد بمقدورهم التمييز بين علوهم الحقيقي وعلوهم المصطنع، فتكون صدمتهم كبيرة حينما يضطرون إلى الهبوط منها بالتقاعد أو التغيير، فيكتشفون أن الدنيا غير الدنيا، والأصدقاء غير (الأصدقاء). فالنظر من فوق الكرسي الدوار غير النظر من تحته، فذلك الكرسي لا يريك من بعض الناس إلا جمالياتهم، ولا يسمعك من أحاديث بعضهم إلا عذوبة مديحهم، فهم يدخرون وجوههم الأصلية وعبارات هجائهم احتياطا ليوم هبوطك.

وفي طفولتي كان بيت جارنا (المسؤول) رغم أن مسؤوليته على (قد حاله) لا يخلو من أصدقاء الكرسي، ينادمونه ليلا ويرافقونه نهارا، إذا تحدث قالوا: (الصواب ما قلت)، وإذا صمت انتظروا ثمار الحكمة، فهم يحبون من أحب أو هوى، ويكرهون من كره أو استهجن، حتى أدرك الرجل ذات يوم هادم الملذات ومفرق الجماعات، فلقد أحيل المسكين إلى (التقاعد)، ومنذ ذلك اليوم صمتت طبول الزفة، وغاب عن بيت الرجل ندماء الليل ورفقاء النهار، حتى أنه عندما مات لم يمش في جنازته أو يحمل نعشه سوى بعض محتسبي الأجر من العابرين وأقرب الأقربين!

وقد سألت مرة مديرا حكيما بعد تقاعده:

ـ كيف وجدت الدنيا؟

فقال: «هي.. هي لم تتغير، لأنني لم أصب بالدوار حينما اعتليت، فلم أصب بالانكسار حينما هبطت»!

لكن كم هم أولئك الحكماء أمثال ذلك الرجل، الذين بمقدورهم النجاة من غيبوبة تلك الكراسي الوثيرة؟! وقد أخبرني أحد الجالسين عليها حينما نبهته لزيف اللحظة بأنه لم يعد بمقدوره التفريق بين أصدقائه و(أصدقاء الكرسي)، فلقد اختلط الأمر عليه وتشابه (الأصدقاء)، وهو يقول ساخرا: «ليس أمام المرء والحالة هكذا، إلا أن يعلن موته أو استقالته كي يعرف على وجه الدقة أصدقاءه الحقيقيين»، فقلت: «وفر عليك يا صاحبي حياتك ووظيفتك فأنا أخشى ألا يكون لك أصدقاء»!!

وأعراض مرض (الكرسي) التي يصاب بها المغرورون والمغرر بهم لا تحتاج إلى فراسة ليدركها المتأمل، فمن بين أبرز أعراضه الظاهرة، أن المبتلى يتكلم من منخره، فتتهدل لعدم الاستعمال شفتاه، ويختلط نشاء (الغترة) بنشاء الوجه حتى يصبح كقطعة صلصال عبثت بها أنامل كرسي ساخر ساحر، قادر على تحويل الجالسين عليه من غير العقلاء إلى (بلياتشو).. فإن كان في حياتك الوظيفية واحد من هؤلاء، فتذكر أن الكرسي يدور، والأرض تدور، حتى الزمان يدور أيضا، فاصبر واحتسب.

[email protected]