غاب كابتسامة

TT

جاء محمد خالد القطمة من حماة إلى بيروت في الخمسينات للدراسة في الجامعة الأميركية. لكن حدث له ما هو أهم من ذلك: تعرف إلى الكاتب الساخر سعيد تقي الدين وأصبح أمين سره. وما بين بيروت اللاهية والساخرة أيام الحقبة الجميلة، وبيروت القومية والمناضلة، بدأ نجل مفتي حماه شبابه، تسعفه وتميزه موهبة أدبية مبدعة وقلم سيَّال يسابق آلات الطباعة بفراسخ.

ثم حدث ما غير حياة محمد عندما دخل السجن بتهمة العمل ضد الدولة. وكانت «نور» تحمل إليه في السجن السجائر والطعام. ولما خرج توجها فوراً إلى المأذون. وفي العام 1963 سافر إلى الكويت للعمل في «الرأي العام». وبقي هناك حتى أمس، بعد صلاة العصر. فعندما اتصل بي نجله «مجد» ليبلغني بوفاة الرجل الذي وضع صورتي على غلاف كتابه، إلى جانب حافظ الأسد وياسر عرفات والذين أثروا في حياته، سألته إن كان في إمكاني الوصول قبل موعد الدفن، فقال إذا كانت هناك رحلة قبل صلاة العصر.

كان محمد خالد القطمة أديباً وشاعراً وسياسياً، لكنه فضل أن يكون أباً كبيراً. ولم يكن أباً لأبنائه فقط بل كان أباً لكل من حوله. وانصرف في الكويت، بكل همة وشغف، إلى العمل في الصحف القائمة وتأسيس الصحف الجديدة، إلى أن استقر به المقام مديراً لـ«دار سعاد الصباح»، يغرق في دنيا الأدب والشعر، التي كانت دنياه الحقيقية.

لم أعرف سعيد تقي الدين، لكنني أشعر أن محمدا كان يشبهه، وربما كان توأمه الأصغر سناً. في الموهبة الكبرى وفي مراياها وعطائها. وكان توأمه في الموقف من الحياة والناس والضعف البشري وصغائر الأرض. وقد عملت معه في «الرأي العام» وفي «الأنباء»، لكن شخصية محمد الرفاقية كانت خارج العمل في الرحلات والأسفار وملتقيات الصيف، إذ يصير خيرة الندماء ومتعة المجتمعات وموزع الابتسامات في المجالس، ضاحكاً من نفسه، ساخراً من سواه، متدفقاً مثل شلال متعدد الينابيع.

كان يعرف، في مرضه، أن حزني يحول دون سؤالي عنه، فيتصل هو بي ضاحكاً، قائلا: «أنا مليح. فيك تتلفن». وعندما اتصلت به في عيد الفطر كان باشاً يخفي كل خوف وقلق. وكرر القول: «سمير. أنا مليح. لا تخف من الاتصال بي». ولم يشكُ مرة واحدة. وعندما ذهبت أعوده بعد إصابته قال لي «المشكلة الوحيدة هي السعال الذي يسببه العلاج. غير ذلك لا تخف». وبطريقته أقنعنا ألا نخاف. ولو عاش لأقنعنا ألا نحزن على غيابه. وغيابه فقدان وحزن ومكابرة جميلة في الوداع.