«أنباء» من قوم عيسى

TT

لبنان بلد ساحر وأخاذ ويجذب زائريه بمغناطيس بات معروفا ويعتمد على الابهار والبريق المصاحب له، ولكن سرعان ما يختفي كل ذلك اذا ما كان الشأن السياسي محل الحديث. يجري حديث الآن في الدوائر المسيحية عن ضرورة أن يحتضن لبنان قضية مسيحيي العراق، وتحديدا ما يحدث لهم من ترهيب واجبار على الرحيل بمدينة الموصل بالذات باعتبار لبنان هو مركز الثقل التاريخي لمسيحيي المشرق، والدور المهم الذي من الممكن أن يلعبه مرجعه الديني المسيحي الأبرز البطريرك نصر الله صفير على الصعيد الدولي وتحديدا مع كنيسة الفاتيكان بروما.

ويأتي هذا التفاؤل «المفرط» والحال السياسي المسيحي في لبنان في أسوأ صوره، فالخلافات البينية بين الزعامات الكبيرة ضخمة الى درجة ان اللقاء البروتوكولي لبدء الحوار حول الخلافات بين الفرقاء لم يتمكن من انعقاده حتى الآن وسط اعذار واتهامات مستحيلة بين الجميع.

شيء ما حدث بين المسيحيين في لبنان، ولم تعد الامور بينهم كما كانت في السابق. والحديث بطبيعة الحال هو عن الطائفة المارونية صاحبة الثقل الأساسي في التركيبة السياسية التقليدية بلبنان، وليس من الروم الارثودكس أو حتى من الأرمن.

الموارنة انقسموا الى فريقين، فريق باتت له قراءة خارج الاطار الديني السياسي الكلاسيكي للطائفة التي «استقل» لبنان على اثرها، وهو فريق يعتقد أن الامور اليوم لم تعد تقاس ضمن نفس المعايير القديمة وبالتالي أصبح للتحالفات الاقليمية دور أهم من التحالفات الدولية مع فرنسا الام أو حتى مع الصرح الطائفي بقلب بكركي نفسها مما يفسر التطاول غير المسبوق على البطريرك صفير من قبل العماد ميشال عون مرة إبان الحرب المسيحية، ومن سليمان فرنجية لاحقا.

وفريق آخر يعتقد أن لبنان نفسه هو موطن للمسيحيين فيه، ولكن لا بد أن يكون لهم وضع «خاص» وذلك تعويضا على الدور الثقافي والفكري «المميز» للموارنة عبر التاريخ، والذي منح لبنان موقعه «المختلف» بين الشعوب.

التناحر البيني الحاصل بين الموارنة وبعضهم البعض هو دليل قاطع أن التركيبة السياسية في لبنان قد تغيرت إلى الآن. فحتى المرجعية الدينية للمسيحيين الموارنة ببكركي التي كانت ترعى وتوجه البوصلة السياسية في البلاد هرمت وشاخت واضمحل دورها الى أقل درجة، وباتت لغتها ضعيفة وخجولة، وقد يكون هذا في صالح السوية السياسية للمستقبل اللبناني، فاضمحلال الحكي الكثير «للمرجعيات الدينية» المختلفة سيولد أرضية ملائمة لدولة المجتمع المدني العاقل والذي سيكون الفيصل فيه للقانون وليس للمذهب والطائفة.

لعل أهم هدية يقدمها مسيحيو لبنان لمسيحيي العراق هو إطلاقهم لمشروع المجتمع المدني وتنازلهم عن التمسك بالطائفية السياسية. أعرف أن ذلك مقولة تبدو ضعيفة للأقليات، ولكن المسؤولية التاريخية للموارنة السياسية تقتضي أن تكون المبادرة لهم في هذه المسألة.

[email protected]