يوم التعارف والعدالة في الأمم المتحدة

TT

«إنّ كلَّ مأساةٍ يشهدُها العالَمُ اليوم هي في النهاية نتيجة للتخلّي عن مبدأ عظيم من المبادئ التي نادت بها كل الأديان والثقافات. فأزماتُ العالم كلّها لا تعني سوى تنكُّر الخَلْق لمبدأ العدالة الخالد». وردت هذه العبارة في كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز في بداية اليومين الطويلين. للتعارف والعدالة بالأُمم المتحدة. وقال الملك أيضاً إنّ الأديان التي أرادها الله سبحانه لإسعاد البشرية لا ينبغي أن تُحوَّل إلى أسبابٍ لشقائهم. وقال أيضاً وأيضاً إنّ الإرهاب والإجرام عدوا كل دينٍ وحضارة، وما كانا ليظهرا لولا غيابُ مبدأ التسامُح.

بدأ يومُ الأربعاء في قاعة الجمعية العامة بكلمةٍ طويلةٍ لرئيس الجمعية العامة مندوب نيكاراغوا قال فيها كل شيء إلاّ ما ينبغي قولُهُ في لقاءٍ لحوار الأديان والثقافات. ثم ما لبث الأمر أن استقام مع صعود الأمين العام للأمم المتحدة إلى المنصّة. فقد ركز الرجل كلمتَهُ على موضوع اليوم بل العام: مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات، وماذا تعنيه بالنسبة للأمن والاستقرار والسلام في العالم. وعندما جاء دورُ صاحب الدعوة كان ذلك الذي ذكرناهُ من ابتداءٍ بالعدالة التي جاء عنها في الأثر الشريف: العدلُ ميزانُ الله في الأرض، إلى أن انتهى بالآية الكريمة في الشعوب والقبائل والتعارُف. وبين هذين المبدأين أو النهجين فتح الملكُ الأُفَق على نظرةٍ أُخرى لوظائف الأديان والثقافات، ورؤيةٍ أُخرى للأهداف الإنسانية العليا في تحقيق السلام والعدالة، أو السلام من طريق العدالة. وما اكتفى بذلك بل رسم النهج للاستمرار، إذ طالب المتحاورين في المرحلة الثانية من مبادرته في مدريد باختيار لجنةٍ تمثّلُهُم وتتولى مسؤولية الحوار في الأيام والأعوام القادمة.

واستمعنا طوال يومي الأربعاء والخميس بعد افتتاح الملك عبد الله بن عبد العزيز لأكثر من عشرين خطابا وكلمة بينها كلماتٌ لا تُنسى بسرعةٍ مثل تلك التي ألقاها الملك عبد الله الثاني ورئيسة الفيليبين، والكلمة التي وزّعها الوفد البحريني للملك حمد بن عيسى آل خليفة، وكلمة الرئيس اللبناني، وكلمة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. الملك الأردنّي سار على خُطى خادم الحرمين، فقصَّ قصة المبادرة من مؤتمر مكة إلى مؤتمر مدريد فإلى يومي الأُمم المتحدة. ثم تحدث عن جهدٍ أردنيٍ مُشابه في الحوار بين المسيحية والإسلام، وانتهى إلى الحديث عن المبادرة العربية للسلام. وحذَّر ملك الأردنّ من أنّ السلام تأخر كثيراً، وأنّ ذلك كلَّف دماءً ودموعاًَ وانقسامات. وإن استمر الحالُ على هذا المنوال فستخيب آمالٌ كثيرةٌ، ولن يستفيدَ من ذلك غير المتطرفين. وما استطاعت رئيسة الفيليبين أن تتجاوزَ مشكلتها مع الأقلية الإسلامية ببلادها، لكنها أكدت أنه لا أمل في حلٍ إلاّ بالحوار والسلام والوحدة، دونما استخدامٍ للدين لإثارة النزاعات والخصومات والأحقاد.

ويستحقُّ خطاب شيمون بيريز وقفةً متأنية وعلينا أن نملك الشجاعة لذلك، أي الاستماع، بقدر ما ملكنا الشجاعة لمقاتلة الصهاينة عبر ستة عقود. بدأ الرجل خطابه يتذكُّر مصرع صديقه (ما كان صديقه أبداً) إسحاق رابين عام 1995 على أيدي المتطرفين لأنه كان مؤمناً بالسلام. ثم استحضر قصةً توراتيةً عن النزاع بين الأقارب، بين إبراهيم وأخيه لوط على المرعى، وما هو النهج الذي اقترحه إبراهيم للمصالحة. وبيريز يريدُنا ونحن العرب أقارب للعبرانيين أن نقتدي بإبراهيم في التصالُح مهما بلغ من هَول الخلافات. ثم تطرق بيريز إلى المبادرة العربية للسلام فانتقى منها ثلاث فقرات قال إنه موافقٌ عليها جميعاً. ولدينا على خطاب بيريز ملاحظتان؛ الأُولى ليست مهمة وهي أنّنا ما رأينا منه هذا الاستقتال من أجل السلام من قبل. ومع ذلك فيمكن أن يكون قد اتّجه اتجاهاً آخر في آخِر عُمُره مثل سياسيين آخَرين يرون الآن أنه لا حلَّ ـ إذا أُريد الإبقاءُ على الطابع اليهودي للدولة ـ إلاّ بإقامة دولةٍ مستقلةٍ قابلةٍ للحياة للفلسطينيين! أمّا الملاحظةُ الثانيةُ فإنّا لو صدَّقْنا بيريز وأولمرت وباراك وليفني... الخ باعتناقهم المفاجئ خلال الشهرين الماضيين للمبادرة العربية للسلام؛ كيف نصرفُ ذلك الشيك؟ فالانتخاباتُ الإسرائيليةُ بعد شهرين، وكلُّ الاستطلاعات تقول إنّ نتنياهو زعيم اليمين هو الذي سوف يحصل على الأكثرية، ويشكّل الحكومة، وهو لا يريد التفاوُض على أساس المبادرة العربية أو على أساس أوسلو.

لقد أُطلْتُ في مناقشة كلمة بيريز اللافتة، لا بسبب أهميتها، بل لما تحتملّهُ من صدقيةٍ أو نتائج. ولا شكَّ أنّ مبادرة الملك الحالية القائمة على التعارُف والعدالة تتجاوز مسألة الشرق الأوسط، وإن تكن قضيةُ فلسطين تشكّل الدليل الأَوضح لإمكان العدالة في هذا العالم! والذي شهدْناهُ يومي 11 و12 في قاعة الجمعية العامة للأُمَم المتحدة هو الخطوةُ الثالثةُ أو الذروةُ في مبادرةٍ بدأت قبل عامين لإعادة تحديد حقيقة الإسلام، بعد أن تخاطَفَهُ الأصوليون والأميركيون. بدأت المبادرة بزيارة الملك للبابا بنديكتوس السادس عشر في الفاتيكان. ثم تطور الأمر بعد شهورٍ بالدعوة للحوار بين الأديان وليس فقط بين المسيحية والإسلام. ثم جرى جَمّعُ العلماء المسلمين في مكة لتحديد ماذا نقصد بالحوار عندما نتحدث عنه. فكانت تلك هي الخطوةُ الأولى بعد أن بدأت معالمُ المشروع تتضح وتتطور. ثم كانت الخطوةُ الثانيةُ في مؤتمر مدريد وبيانه، وظهر البُعْدُ الاستراتيجي والسياسي للمبادرة في الخطوة الثالثة بيومي الأُمَم المتحدة التي اتخذ لهما الملك عبد الله بن عبد العزيز عنوان التعارُف والعدالة.

في الخطوة الثالثة هذه تتلاقى ثلاثة عناصر: عنصر استعادة الزمام في المسألة الإسلامية، وعنصر استعادة الزمام في قضية العرب القومية، وعنصر الشراكة بين العرب والعالم. في المسألة الإسلامية، استطاعت المملكة العربية السعودية في السنوات الماضية أن تكتسب صدقيةً كبرى لأنها لم تلعبْ أبداً مع الإرهاب والتطرف لعبة القط والفأر أو الاستغلال والاستخدام، مثلما فعلت عدةُ بلدانٍ عربية. ثم كسبت صدقيةً من جهةٍ أُخرى عندما سارتْ في ملفّ الحوار إلى النهاية غير آبهةٍ للصغائر والحساسيات، فالإسلام دينٌ عالميٌّ، وعدد المسلمين يوشك أن يبلُغَ خُمس سكّان العالَم. والعربُ هم قلبُ هذه الأمة، وبهم تتعلق مصائرُ الإسلام إلى حدٍ كبير. ولذلك كلّه أعباؤه ومسؤولياته، ولا يصح أن نبقى في مواقع الدفاع، لأنّ الذي يدفعُ عن نفسه لا يستطيع المشاركة على قدم المساواة؛ بل لا يستطيع التفكير فيها.

أما العنصر الآخر، فهو الذي أعطاه الملك عنوان العدالة، والقضية الفلسطينية بندٌ رئيسيٌّ فيه أو أنها البند الرئيسيُّ في العلاقة الاستراتيجية مع العالَم. وما ظلًَّ الملكُ نظرياً في هذا المبدأ، بل أحال على مبادرته للسلام. لكنْ من ضمن العدالة أيضاً طرائق العالم والقوى الكبرى في التعامُل مع الكثير من قضايانا نحن العرب، ونحن المسلمين. فإذا كان حجم المسلمين يبلغ خُُمس سكّان العالَم؛ فإنّ 30 دولة من الدول الـ58 الأكثر فقراً في العالَم، هي دولٌ إسلامية. ولدينا في السنوات والعقود الأخيرة الخراب الجاري على الصومال والعراق وأفغانستان والسودان، وما يُصيبُ الأقليات الإسلامية في العوالم الآسيوية والأوروبية.

ويأتي العنصر الثالث بوصفه العلاجَ لمآسي العنصر الثاني، مآسي الافتقار إلى العدالة من جانب العالم. العنصر الثالث هو تطلُّبُ الشراكة مع العالم في الجيواستراتيجي، وفي الاقتصادي. فالعرب يتحملون أعباء كبرى في ممراتهم الاستراتيجية، وفي ثرواتهم الطبيعية، من أجل استقرار العالم وأمنه وتقدمه. وهم ينفقون الكثير من ثرواتهم على وكالات الأمم المتحدة المتخصصة. لكنهم لا يحظون بالشراكة في النظامين الاستراتيجي والاقتصادي في العالَم. واليوم يحضر الملك عبد الله بن عبد العزيز في واشنطن اجتماع العشرين لمواجهة الأزمة المالية العالمية. والإسهام في المعالجة يقتضي الشراكة لكي يكونَ العُزْمُ بالغُنْم ـ أو لا داعي لبذل تلك الجهود الكبرى من أجل لا شيء أو ضحكاً على الذقون. نعم، لقد تأهَّلنا بعد معاناةٍ وآلامٍ ونكباتٍ لتسلم زمام قِضايانا، وللمشاركة في تقدم العالم وأمنه واستقراره. لقد رفع الملك عبد الله بن عبد العزيز أفق التطلعات والمطامح، ولا طريق لمستقبلٍ عزيزٍ للعرب إلاّ من المداخل الثلاثة التي فتح سُبُلَها في الأعوام الستة الماضية.