تشريح الحملة

TT

شهدت، خلال سنوات عمري السابقة، أحداثًا مؤسفة أكثر إيلامًا، لكن هذا الحدث هينٌ، فقد أصيب المريض، في 15 سبتمبر (أيلول)، إصابات بليغة عندما حصر بين الأنقاض لدى انهيار السقف (في ليمان براذرز حسب تقرير الشرطة)، بالرغم من سكونه المميت، إلا أنه أشرف على الموت المحقق في 4 نوفمبر (تشرين الثاني). ولقد تناسينا في غمرة النجاح القاطع لباراك أوباما أن الأسابيع الأولى من شهر سبتمبر شهدت تقدم ماكين، لكن الأزمة المالية جاءت وانهار بنك ليمان. ولم يكن ذلك انهيارًا بل هو رعب، ففي غضون بضعة أيام من المعاناة، انهار الإيمان بالنظام المالي بأكمله ـ حيث اضطربت أوضاع البنوك وسحبت الأموال من الأسواق المالية وتزايدت الرغبة في الاحتفاظ بالمال بعيدًا عن أوجه المخاطرة.

لذلك لم يؤثر في شعبية الحزب الجمهوري على الرغم من مسؤوليته الكبيرة عن الأزمة، بل كان لها أثر عميق في جعل المواطنين يسعون للحصول على ملاذٍ إلى جانب الحكومة.

حتى وإن كان غولدمان ساشز يحصل على حماية الحكومة فلم لا تحصل عليها أنت؟ وتقديم الراحة والأمان الحكومي سيكون مهمة الحزب الديمقراطي، فمع خطة التأميم الجزئي للبنوك التي قام بها البيت الأبيض ومناورات ماكين ضد أوباما ـ اتهامات جو السباك بالاشتراكية ـ أصبحت تقريبًا شبه مهزلة.

إننا لم نقيم بعد كيف كانت الأحداث التي شهدها سبتمبر وأكتوبر (تشرين الأول) غير مسبوقة بالفعل، فلم يكن هناك ذعر مالي وسط الحملة الانتخابية. وتخيل لو أن مؤشر «إس آند بي» كان قد أغلق في نهاية العام كما حدث في يوم الانتخاب لكان سيعاني من هذا العام من أكبر انخفاض منذ عام 1937، أي في 71 عامًا. وقد عانى الاقتصاد في الوقت نفسه على مدار تسعة أشهر متوالية من فقد الوظائف، وبالنظر إلى الخسائر التي شهدها كل من رأس المال والعمال (والتي تطال كل أحد) فما كان لرونالد ريغان نفسه أن يصمد هو الآخر. وقد كان حصول ماكين على نسبة 46% من أصوات الناخبين في الوقت الذي قال فيه 75% من الأميركيين أن البلاد تسير في الاتجاه الخطأ أمر جدير بالملاحظة. بيد أن الأحداث الخارجية الطاحنة، جعلت ماكين يقدم على ارتكاب خطأين فادحين غير متوقعين، أولاً كان قراره تعليق الحملة الانتخابية خلال الأزمة المالية، والذي حاول من ورائه تقديم المساعدة، لم يثبت فشله فقط بل أسهم في إبراز صورة ماكين غريب الأطوار، وهو الأمر الذي قوض ميزة تفوقه الكبير على أوباما في مفهوم القيادة. كما كان اختيار سارة بالين خطأ آخر يضاف إلى سلسلة أخطائه، وما أتحدث عنه هنا هو آثاره السياسية، وليس الاستعراضات الجانبية لحماسة داعية المساواة بين الجنسين والاستعراضات السياسية ونفور الصفوة الذي لا تربطه بالسياسة سوى وشائج قليلة ولا يتعلق إلا بالتحامل الثقافي والاستياء والتصنع.

لقد كان اختيار بالين خطأ فادحا (كما أشرت في مقالي لدى اختيارها بأنه اختيار «شبه انتحاري»)، لأنها قوضت مبادئ حملة ماكين ضد أوباما التي ارتكزت على: عدم خبرته وأنه لا يزال غير أهلٍ لتولي القيادة. ولم تقوِّض ترشيحها فكرة الاستعداد عقليًا فقط، لكنها غيرت ديناميكيات الانتخابات عبر تحويل الانتباه إلى استعداد بالين وقدراتها البدنية وخبراتها، بعيدًا عن أوباما. لقد اعتقد ماكين أن بإمكانه أن يسرق قضية «التغيير» من أوباما عندما حاول إدارة حملة تتكون من شقين، وهو ما اتضح أنه خطوة حمقاء مخالفة لمنطق الالتزام ببرنامج الحزب، ومحاولة سرقة شعار «التغيير» من مرشح المعارضة. وقد أظهرت صناديق الانتخابات ذلك بقوة، حيث سعى الناخبون الذين يسعون إلى إحداث التغيير إلى ترشيح أوباما بنسبة 89 إلى 90، وهو الأمر الذي لا يمكن القول معه أن أوباما لم يدر حملة قوية، لقد قام بذلك بالفعل، فكل تفاصيلها الدقيقة درست ونفذت بمهارة بالغة. وأدرك أوباما منذ مؤتمر دنفر أن عليه أن يتخلى عن لغة الإبهار والتنمق في الألفاظ وأن يلجأ إلى البساطة والتقرب من الجماهير، وفوق كل ذلك أن يكون مطمئنًا لهم، وهو ما قام به بالفعل. وعندما عصف التسونامي الاقتصادي بالأسواق المالية، أدرك أوباما أن كل ما عليه هو التنحي جانبًا وهو ما قام به أيضًا.

وفي ظل أوباما، سنكون مع رئيس ذي استخبارات سياسية تماثل تلك التي ثبتها كلينتون على الرجل الفولاذي فلاديمير بوتين (أقول ذلك من قبيل الإعجاب)، وبتلك المقومات يمكن لأوباما أن يمتطي جواد الساحة السياسية بقوة كما فعل رونالد ريغان من قبل.

لكن أعتقد أنه يجدر بنا أن نعترف بأن ماكين خاض سباقًا شجاعًا ضد عقبات مستحيلة، وسيظل في ذاكرتنا كأفضل مرشح رئاسي يحرم من الجائزة.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»