من الحرب إلى الأمن العنيف

TT

 يبدو من مؤشرات الوضع العراقي ان المناخ الأمني تحسن في الأشهر الأخيرة بتراجع الخسائر التي يتعرض لها جيش الاحتلال وتقلص عمليات العنف التي تستهدف الحكومة والمدنيين. وفي حين تربط الدعاية الأمريكية الرسمية هذه الظاهرة بتزايد الحضور العسكري الأمريكي واستقطاب القبائل السنية في مواجهة تنظيم القاعدة (حركة الصحوة في أوساط العشائر)، تلاحظ  ماري كالدور، الباحثة في دراسات السلم الدولي، في دراسة مهمة منشورة أخيرا حول الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق، أن الولايات المتحدة غيرت في الواقع خطتها للحرب في إطار مراجعة نظرية وإستراتيجية شاملة للعقيدة الدفاعية الموروثة عن عصر الحرب الباردة. فهذه العقيدة تأسست تاريخيا على  مسؤولية نشر أفكار الديمقراطية والحرية في العالم بالتفوق العسكري الكاسح  على أعدائها. وأثبتت نجاعتها في مواجهة الخطرين النازي والشيوعي. وإذا كانت الولايات المتحدة استطاعت أن تسقط نظامي طالبان وصدام حسين وتحتل العراق بسرعة فائقة، إلا أنها اكتشفت بعد انتهاء المواجهات العسكرية ان العامل التقني ليس كافيا لحسم الأنماط الجديدة من الحرب التي يطلق عليها المختصون عبارة «الحروب غير المتكافئة». لذا فان الخطة الأمريكية الجديدة تتمحور حول آليات ثلاث هي: الاقتراب من السكان والاختلاط بهم وخلق علاقات مودة شخصية معهم بدل الانكفاء في المواقع المحصنة المعزولة، الإسهام في تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين والعمل على إنشاء وتحسين البنيات التحتية للدولة، التركيز على مجهود بناء الأمة المندمجة وتوطيد الكيان الوطني بدل الاكتفاء بتصدير النموذج الانتخابي التعددي في بيئة صراعية متأزمة. وليست هذه الاتجاهات دليلا على نجاح الإستراتيجية الأمريكية في العراق والتي مهما كانت النتائج النسبية التي حققتها، فإنها في نهاية المطاف تظل تجربة احتلال لا يمكن ان يحظى بقبول شعبي. وإذا أخذنا احد التعريفات الكلاسيكية للحرب بأنها «نزاع مسلح عمومي وعادل» أمكننا التنبه الى هذه الجوانب المركبة. فهي في قلب النوازع الأخلاقية من منطلق كونها تحيل الى مثال التضحية والفداء والخضوع لنظام وقيم المجموعة، ولذا اعتبر هيغل ان الحرب ضرورية للخروج من حالة الأنانية الفردية. ولقد انبنى الفكر السياسي الغربي الحديث على فرضية الحرب الأصلية (حرب الكل ضد الكل حسب عبارة هوبز) لتبرير نشأة الدولة التعاقدية القائمة على شرعية الأمن العمومي واحتكار العنف في الوقت الذي اعتبر فيه الحرب عنصرا محددا في هوية الدولة الوطنية لما تفضي اليه من شد اللحمة الداخلية في مواجهة العدو. ومن هنا تتشكل الدلالة القانونية للحرب كنزاع بين دولتين ذات سيادة، انتهاكا لميثاق جامع أو اعتداء على حق سيادي. ويبين الفيلسوف الفرنسي فريدريك روس في أعماله الرائدة الأخيرة  حول الحروب الجديدة ان منظومة الحرب انتهت. وتم استبدالها بحالات عنف لا يمكن ان تنطبق عليها المقومات الأخلاقية والقانونية والسياسية للحرب. فمبادئ العنف الجماعي الجديدة ثلاثة هي:

ـ الأحادية في مقابل مبدأ التفاعل التصادمي والتبادل عبر الموت لأن التفوق التقني الكاسح يحول الحرب الى عملية تدمير للطرف غير المحارب الذي هو السكان العزل.

ـ التأمين أي تحويل الحرب الى مجرد تدخل بوليسي لتأمين الذات وتحصين الموقع، مما يموه طابع العدوان والمواجهة، ويفضي الى اختزال عنف التقنية العسكرية المدمرة في مفهوم التدخل المطاط الذي يشمل أنماط التدخل الإنساني غير العنيفة.

ـ التركز  الإعلامي عبر مركزية الصورة التي تنقل كامل فظاعة العنف وعبثيته المدمرة في مقابل أدبيات السرد القائمة على ذاكرة المجموعة المحاربة.

ومن هنا، ندرك نهاية الثنائيات التي كانت تقوم عليها ظاهرة الحرب: الحرب والسلم، الحليف والعدو. كما ندرك عقم المدونات التشريعية والأخلاقية القائمة في مواجهة أنماط العنف الشاملة الجديدة. فالخطأ القاتل الذي سقطت فيه الإدارة الأمريكية هو أنها أرادت تحويل ساحات المواجهة ضد الإرهاب والعنف الأصولي الى مسرح للحرب التقليدية دون عمل فكري واستراتيجي عميق على إشكالات الشرعية والأخلاق التي تطرحها هذه الأصناف الجديدة من المواجهة. لم تدرك الإستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش ان الحرب كمفهوم وتجربة تاريخية انتهت أي بعبارة أخرى انها لم تعِ حدث الانفصام بين تقنية العنف ومرجعيته المعيارية.