حرية الصحافة بين قانون الأثرياء ومثالية الفقراء

TT

اجتاحت شارع الصحافة البريطاني، فليت ستريت، عاصفة تجاوزت امتداده الجغرافي غربا، حيث دار القضاء العالي، وشرقا لمنطقة «تيمبل» حيث توجد مكاتب أعتى المحامين منذ قرون.

بدأت العاصفة بكلمة بول ديكر، رئيس تحرير مجموعة «الديلي ميل» وهي يمينية سياسيا، في المؤتمر السنوي لرؤساء تحرير الصحف متهما القاضي ايدي بمحاولة فرض الرقابة «من الباب الخلفي»، لحكمه في قضية مشهورة لصالح الادعاء ضد صحيفة «نيوز أوف ذي ورلد» اكبر الصحف توزيعا يوم الأحد في العالم الناطق بالإنجليزية.

ترأس القاضي نفسه الفصل في عدة قضايا انتهت كلها لصالح الجهة المتضررة من نشر تحقيق صحفي اعتبرته «مسألة شخصية» لا يجوز نشره «بحجة أهميته لقراء الصحيفة»، بينما اعتبره محامي الصحيفة يتجاوز الخصوصية إلى الاهتمام العام.

جادل الدفاع بان الشخصية «المتضررة» أصبحت مشهورة فقط باهتمام الصحافة بينما لا تحتج على نشر «أمور خاصة» عندما تكون دعاية ايجابية لها ـ كأخبار نجوم السينما مثلا..

جادل ديكر بحق الناس في معرفة تصرفات خاصة لشخصيات عامة عندما تتعلق بمصالح القراء.

فإذا كان وزير للصحة يحاضر الناس عن أضرار التدخين، وتكتشف صحيفة انه أقام حفلا خاصا في منزله دعا إليه مستثمرين بينما ضيف شرف الحفل صاحب شركة سجائر يبحث عن شركاء. أوليس نشر أخبار هذا الحفل «الخاص» أمرا يهم القراء؟

ديكر ينتمي لمدرسة «الجمهور عاوز كده» حيث السقف الأخلاقي (الخطوط الحمراء في العالم العربي) هو الذوق العام للمستهلك (القارئ ـ المشاهد ـ المستمع).

اتهم ديكر القاضي ايدي بمحاولة تسريب قانون «رقابي» من الباب الخلفي لقلعة حرية الصحافة خلسة بإصدار سلسلة من الأحكام في قضايا رفعها متضررون من النشر ـ وهم دائما من الأثرياء.

أتعاب محامي الإعداد solicitor الذي يعد المستندات فقط والبحث القانوني تصل 500 جنيه إسترليني في الساعة، بينما محامي المرافعات في الجلسة Barrister تتجاوز أتعابه الألفي جنيه في الساعة.

القانون الإنجليزي غير مدون في كتاب، كالقانون المصري مثلا؛ مدى براعة محامي الادعاء والدفاع في مبارزتهما البلاغية تقنع المحلفين، كممثلين لضمير الأمة، بالتصويت بالبراءة أو الإدانة.

تراكم الأحكام يشكل سوابق قانونية يعود إليها المحامون، والقضاة ـ في توجيهاتهم للمحلفين ـ في القضايا الجديدة أي تصبح مرجعية قانونيا قضائية.

ولذا اتهم ديكر القاضي بخلق سوابق كمرجعية تصبح سيفا قانونيا رقابيا مسلطا على الصحافة، من دون الرجوع لمجلس العموم (البرلمان) وهي الجهة الوحيدة المخول إليها صلاحية إصدار القوانين دستوريا.

بل اتهم ديكر القاضي ايدي وزملاءه بالطبقية؛ فأغلبهم من الأرستقراطيين أو الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة وبوضعهم القضاء في خدمة الأغنياء فقط.

كيف يتسنى لطبيب قي وزارة الصحة مقاضاة صحيفة وجهت إليه تهمة الإضرار بصحة مرضاه، إذا كانت تكاليف المحاماة تتجاوز دخله لثلاثة أعوام؟

فما بالك إذا كان المتضرر من نشر الريبورتاج نجارا بسيطا؛ أو ميكانيكي سيارات (وكثيرا ما تنشر الصحف حكايات عن صاحب كراج نصب على سيدة لا تفهم تكنولوجيا محرك السيارة، وتقاضى مائتي جنيه عن قطعة غيار ثمنها خمسة جنيهات).

محاضرة ديكر أوقعت اليسار في مأزق أخلاقي.

فاليسار يكره ما تمثله «الديلي ميل» التي تدعو (لاحترام التقاليد والإبقاء على الملكية وإطاعة المرأة لزوجها وتفرغها لتربية الأولاد الصغار) وهو ما يعتبره اليسار كفرا. فتطاول المرأة على زوجها «تحرر» وتفضيلها العمل على تربية الأولاد «تقدما نسويا»، وتعبير «ربة المنزل» إهانة في نظر اليسار الذي يدعو لتصفية الإرث الإمبراطوري، الذي خلق ديموقراطيات في خريطة لا تغرب عنها الشمس، ويدعو اليسار علنا ـ لا قدر الله ـ للتحول إلى النظام الجمهوري.

لكن رئيس تحرير «الديلي ميل» (الرجعية) دافع عن حرية الصحافة ورفض قانون الخصوصية الذي ستستخدمه قلة من الأغنياء لفرض الرقابة.

القضية محل النقاش كانت حكما فوجئ الصحفيون بإصداره ـ في محكمة من دون محلفين ـ ضد «نيوز أوف ذي ورلد»، لصالح السير ماكس موزلي، المدير العام لفورميولا وان، وحفيد السير ادمون موزلي، رئيس اتحاد الفاشيين البريطانيين المعروفين بـ«القمصان السود» الذي دعا في الثلاثينات إلى التحالف مع النازية وأدولف هتلر (الذي كان شاهد زواجه).

الصحيفة نشرت تحقيقا مصورا ومقابلات «شاهدات» عيان، لحفل ماجن حيث دفع ماكس 500 جنيه في الساعة لكل من أربع «محترفات» اقتصر ملبسهن على الحذاء العسكري وكاب ضباط الجيش النازي ويمسكن بالسياط ومثلن، طوال الليل مشهدا من سجن للتعذيب في فترة الحرب الثانية تلقى فيه السير موزلي العقاب بالسياط من أيدي الضابطات المزيفات بعد أن مزقن ملابسه.

محامي موزلي قال إنها «تمثيلية للتسلية» في شقة خاصة لا شأن لأحد بها. محامي الصحيفة قال إن الموضوع يهم القراء. فموزلي شخصية عامة يترأس رياضة أبطالها قدوة للشباب، كما انه دافع علنا عن مؤسسة الزواج والإخلاص للأسرة. إحدى المحترفات هي زوجة لضابط في المخابرات البريطانية.

الصحيفة ذكرت القراء بفضيحة جون بورفيومو وزير الحربية في حكومة الك دوغلاس هيوم في مطلع الستينات، حيث كانت عشيقته ـ من دون علم زوجته طبعا ـ في الوقت نفسه عشيقة للملحق العسكري في السفارة السوفيتية أثناء الحرب الباردة.

رغم عناصر تبرير النشر حرفيا، أصدر القاضي ايدي، فتواه القانونية بان حفلة موزلي في تمثيلية السجن الألماني أمر خاص لا يهم القراء.

وبالطبع أيد الصحفيون اليساريون، ديكر اليميني، فحرية التعبير ورفض الرقابة توحد أبناء «قبيلة» الصحفيين في الاستماتة دفاعا عن دورها التاريخي كسلطة رابعة.

تذكرت القضية أثناء ندوة الإعلان والإعلام ضمن مهرجان الإعلام العربي في القاهرة بحضور الصديق العزيز انس الفقي وزير الإعلام المصري وهو وزير مستنير يعمل على تطوير صحافة بلاده.

أزعجني ترديد كلمة «الرقابة» على الإعلان، بحجج شتى أي فرض الحكومة «وصايتها» على المواطن وكأنه «قاصر» عن اتخاذ قراره بنفسه.

ضربت أمثلة بإعلانات لمحلات الهامبورجر غير الصحية، ومطالبة البعض بمنعها.

كان جوابي ـ كرجل بسيط: ولماذا لا تبث الحكومة إعلاناتها المضادة للهامبورجر؛ أو بالتوعية بعمل برامج عن وجبات صحية رخيصة الثمن؟

رغم رفضي المبدئي لفكرة وصاية الدولة على المواطن أصلا.

وكانت هناك الدعوة الدينية الاخوانجية بفرض رقابة على إعلانات الفن، بحجة حماية «قيم المجتمع وتقاليده» والشباب من الانحراف. وإجابتي ببساطة، أنه لا إكراه في الإعلام وباستطاعة الأبوين تحويل مفتاح القنوات إلى ما يناسب الأسرة.

إصدار المزيد من القوانين بحجة تنظيم الصحافة مهما كان نبل القصد ينتهي دائما بقمع الحريات في البلدان التي تزج بالصحفيين وراء القضبان، وتغلق الصحف؛ أو بإفلاس الصحف وحرمان الجماهير من رقابة السلطة الرابعة على الحكومة والساسة في البلدان الديموقراطية عندما يضع القانون احتكار الإعلان والإعلام في أيدي القادرين وحدهم من دون بقية الناس.