الدهاء السوري

TT

من يسمع الضجيج المتصاعد حول شريط اعترافات متهمي تنظيم «فتح الإسلام» الذي بثه التلفزيون السوري، يظن ان الخلاف بين لبنان وسورية هو على أمر يستعصي التأكد منه أو إثباته من نفيه. ويخطئ اللبنانيون كثيراً حين يتعاملون مع اعترافات موثقة بالصوت والصورة مهما كانت ملفقة أو مغرضة بتصريحات سياسية نارية تتهم سورية بالكذب والتزوير دون تقديم إثباتات دامغة وداحضة، تكشف الرواية الحقيقية وتزيل كل لبس عن هذه القضية.

فالاستخبارات اللبنانية تتعقب تنظيم فتح الإسلام من قبل أن تشتعل معارك نهر البارد بستة أشهر. أي ان الملف معروف لبنانياً منذ ما يناهز السنتين. وفي السجون اللبنانية عناصر وقياديون من التنظيم لا بد انهم أدلوا باعترافات دسمة. ولم تتوقف السلطات اللبنانية عن مطاردة المتطرفين والمشتبه بهم من يومها، لا بل هي لا تزال تعتقل إسلاميين لم تثبت عليهم تهم، على سبيل الاحتياط والحذر، مما يجعل عائلاتهم ترفع الصوت لإطلاق سراحهم، أو محاكمتهم إن كانوا مجرمين. أضف إلى ذلك كله ان نساء مقاتلي فتح الإسلام الذين قضوا أو اسروا في نهر البارد، بقين في لبنان لشهور طويلة بعد انتهاء المعارك، وبينهن زوجة رئيس التنظيم شاكر العبسي وكاتمة أسراره، ولم تختفي ابنته وفاء عن الأعين اللبنانية إلا في الأسابيع الأخيرة حيث ظهرت في شريط الاعترافات السوري الشهير وكأنها أحد أركان التنظيم وعالمة بخفاياه. فأين كان الأمن اللبناني من كل هؤلاء النسوة، وهل استنطقهن؟ وما الذي أدلين به؟

غياب الرواية اللبنانية الرسمية والموثقة، مقابل القنبلة الإعلامية السورية مهما كانت ملفقة، هو أمر مريب ومثير للتساؤل. وكلما سألنا عن سبب هذا الهزال الأمني اللبناني، قال السياسيون، من دون مواربة، ان الأجهزة الأمنية يعمل كل منها بمعزل عن الآخر، وانها لا تنسق فيما بينها، حتى انها لا تتبادل المعلومات، وهو ما يعيق التوصل إلى نتائج ملموسة في ما يخص الغالبية الساحقة من الجرائم والاغتيالات التي ارتكبت على الأراضي اللبنانية. وهذه اعترافات خطيرة ممن يفترض انهم مسؤولون، لكن يبدو ان ليس من يحاسب! ففريق 14 آذار يتحمّل المسؤولية بصفته الأكثرية النيابية، لكنه يتذرع بأنه لا يقبض على كل المؤسسات الأمنية وفريق 8 آذار له حجة أكبر باعتباره لا يملك زمام السلطة، كما يحلو له ان يدعي. وما بين «جاتو» السلطة الذي يتقاسمه فريقا 8 و14 آذار سقط مئات الضحايا، وجلدوا في قبورهم بسياط الخطابات السياسية العقيمة والسقيمة.

وهناك ما هو أدهى، إذ رغم التكذيبات التي وجهت إلى الشريط، واعتبار كل ما جاء فيه افتراء وتضليلاً، تحركت القوى الأمنية اللبنانية وكأنها انتفضت من جديد، وأخذت تتعقب بعض الذين وردت اسماؤهم على ألسن المعترفين التلفزيونيين. فقبض على من يسمى خالد العتر «أبو العبد» في طرابلس، بعد ساعات فقط من بث الشريط، والبحث جارٍ بجدية كبيرة من قبل التنظيمات الفلسطينية والقوى الأمنية اللبنانية لإلقاء القبض على عبد الرحمن محمد عوض الذي قال الشريط انه مسؤول التنظيم بعد شاكر العبسي، ومقيم على الأرجح في مخيم عين الحلوة. وهو مما يدلل على ان ما بثّ ليس كله كذباً كما انه ليس بأكمله صحيحاً. والجانب اللبناني الرسمي مطالب اليوم بأن يصارح الرأي العام بما هو حقيقة ثابتة وما هو ملح وبهار وتوريطات لمن يريد النظام السوري التخلص منهم أو تشويه صورتهم. وذلك كله لا يتم عبر الخطابات الرنانة وإنما بإعلان نتائج التحقيقات او جانب منها على الأقل. ونحن نصدق المحققين اللبنانيين ونثق بهم، ونود لو نباهي لمرة واحدة بثمرة جهدهم.

لكن بينما تنجلي الصورة بالوضوح الذي نأمل أو تطوى القضية على غموضها، كما طوي غيرها، فإن الأمن اللبناني قرر أن يتعاطى مع سورية بما يمليه «التعاون والتنسيق». ويبدو بعد زيارة وزير الداخلية اللبناني للقطر الشقيق أن القطار الأمني بين البلدين وضع على السكة، وربما أننا لن نجد أبدا إجابات على أسئلة كثيرة تغلف هذه القضية وتحولها إلى لغز كبير.

والواضح من هذا كله أن سورية مررت الرسالة التي تريد، ووصلت إلى الغاية التي تبغي وأن لبنان التواق للسيادة والاستقلال والعلاقات الندية مع الجار الكبير، اخفق في أول اختبار عملي لإثبات الذات، بعد القطيعة والفراق، ولم يعرف كيف يضع النقاط على الحروف المهتزة والمختلة بسبب الاهتراء الداخلي وتصدع المؤسسات، والفساد الذي يضرب في عصب النظام الطائفي النخر. أما الإسلاميون المتطرفون فقد أثبتوا لمرة جديدة انهم رومانسيون رغم ميولهم الإرهابية وحالمون رغم وسائلهم العنفية، وأن شطارتهم في انتهاز كل نظام يمد لهم اليد، لن تؤدي بهم إلا إلى التهلكة. وهم هذه المرة وقعوا في الفخ كما في مرات سابقة، وقد استعملوا واستهلكوا حتى انتهت مدة صلاحيتهم، ولن يجدوا من يرحمهم أو يأسف عليهم.

وقد يكون مسلسل «فتح الإسلام» قد بدأ يقترب من خواتيمه، لكننا بتنا نسمع عن «فرسان الإسلام» وقد يأتينا من بعدهم «أحصنة» و«ألوية»، وكلها مسميات لحكاية واحدة تتناسل وتتوالد، في أنظمة لا مكان فيها لمواطنين يعيشون تحت سقف دولة عادلة، ما دامت الطوائف والعصبيات والمكائد هي التي تحدد المصائر.

[email protected]