العراق ومخاضات التشكل

TT

كل يوم يثبت العراق انه في طور التشكل، وهذا التشكل يظل متيناً وايجابياً ما دام يجري وفق الأسس الديمقراطية ويستفاد من تراكم الخبر وتجارب الشعوب الأخرى، وما دمنا مغلبين عناصر وممهدات النجاح ومتجنبين ألغام التفجر والعقد الباعثة على النزاع. ضمن هذا التوجه حاول المالكي رئيس الوزراء العراقي أن يضع رؤاه حول ضرورة إجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتوضيح وتحديد العلاقة ما بين حكومة المركز وسلطات الإقليم والمحافظات، إذ ليس أدل من أن هذا الدستور كتب على عجل انه اخذ شهرين فقط لإنجازه في حين أن تعديله مضى عليه ثلاثة سنين ولم ينجز، هذه الثلاثة سنين لا ريب أن ليس كلها عملا ولكن هي خبرات وهي فحوصات وتجريب. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية ربما يقال بأننا في خطوات بناء الدولة لم نكن نمتلك فسحة الوقت أو ترف الإطالة، وهذا صحيح ولا ادعاء بخلافه ولكن أن نتعبد بما أنجزنا ونجعل تعديله لا يعدو الحواشي هو خطأ يريد أن يوقف صيرورة التشكل عند لحظة التأسيس العراقية المحملة بالمخاوف والمهجوسة بالضمانات.

ففي حديثه الأسبوع الماضي المطالب بالتعديلات الدستورية أمام مؤتمر النخب والكفاءات حاول المالكي أن لا يدوس على ذيل الأفعى، فاحتاط لذلك بالقول بأنه يبدي ملاحظاته كمواطن أولا ومستبعدا ثانيا انطلاقها من رغبته في زيادة صلاحياته لكون من هم في المركز او في المحافظات سيستبدلون بآخرين وان الباقي فقط الوطن.

بعيداً عن مدى صوابية هذا الاتهام الذي يجب ألا يحجب النظر عن ملاحظاته كونه من مارس المسؤولية في ظل هذا الدستور وشكل حكومته الدائمية الأولى التي مضى عليها ما يقارب الثلاث سنوات والتي شهدت فيها العلاقات ما بين حكومة المركز وسلطات الأقاليم والمحافظات كثيراً من الاختلاف والتوتر ومن تباين الرؤى، والتي لتجنبها رأى ضرورة تحديد الصلاحيات بلا لبس او غموض وان تعطى الصلاحيات المستجدة للمركز أي أن ما لم ينص عليه يعود للمركز الذي تكون حكومته هي المختصة لوحدها في القضايا السيادية وقضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية. أهمية هذه الإثارة كونها أتت ولجنة إعادة النظر بالدستور وصلت إلى مرحلة الحسم منجزة أكثر من ستين تعديلا إلا أنها فشلت في حسم الأهم الذي ظل، والراجح سيظل، عصياً على التوافق، حيث أن مثار الخلاف بقي في أكثر القضايا أهمية وهو النفط والتنازع في إدارته رغم انه مصدر دخل العراق الوحيد وعامل وحدته او تجزئته، وفي إدارة الموارد المائية التي على رغم مصيريتها للحياة شتت التصرف بها، وكذلك في التمثيل الخارجي للأقاليم والمحافظات، وفي لا قيمة القوانين المركزية عند تعارضها مع قوانين الأقاليم.

الكرد من جهتهم ردوا أن هذه نزعات لزيادة سلطة المركز وأنها مرفوضة، وان لا مس بصلاحياتهم المكتسبة في الدستور وأنهم يتمسكون به باعتبار ان الالتزام به هو الضامن لوحدة العراق، ولا يمانعون من الآليات الديمقراطية في التعديل شرط ألا تطال حقوقهم، لا شك أن للكرد خصوصية كونهم مستقلين منذ 1991 وعادوا إلى الدولة وان الذي يمنعهم من الانفصال هو خيارهم بان يكونوا ضمن عراق متساوين فيه بالحقوق مع إدراك واقعي بان الظروف الدولية والإقليمية تحول دون ذلك.

الا ان المشكلة فيما لو لم يتم التعديل وتمسك الكرد فيما حصلوا عليه في الدستور في أنها تكمن بأنه لا يمكن تمييز إقليمهم بحقوق وصلاحيات خاصة به، إذ وفقاً لقاعدة التساوي التي نص عليها الدستور فانه ساوى كل الأقاليم القائمة والتي ستتشكل بل وحتى المحافظات التي لم تنتظم بإقليم بالتمتع بنفس الحقوق، لذا ما الذي سيمنع بقية المحافظات من أن تسعى للحصول على نفس صلاحيات وسلطات إقليم كردستان، أو أن تنتهج نفس أسلوب علاقته بالمركز، وفي حرية التصرف بالموارد الطبيعية والتعاقد عليها، ماذا لو تصرفت البصرة التي هناك دعوات فيها مؤخراً للمطالبة بان تتحول لإقليم؟

الحل لا يبدو إلا في تمييز وضع إقليم كردستان عن باقي العراق، فإذا ما رفض القادة الكرد كما صرحوا ويصرحون دائماً التقليل من سلطات إقليمهم التي حصلوا عليها في الدستور، الحل يعود بزيادة هذه الصلاحيات بدلا من تقليلها، أي رفع درجة استقلال إقليم كردستان إلى كونفيدرالية، وهي تقريباً تقرير لحال عملياً قائم، فتحتفظ بنظامها السياسي والاقتصادي واستقلالية حكامها وحكومتها وترتبط بالأمور الرمزية ضمن العراق أي مكونة حلفا لحماية المصالح المتبادلة وتتخذ كما هي الدول التي تدخل في هكذا تعاقد قرارات الكونفيدرالية بالإجماع وهذا الاتحاد له مآلين؛ إما ينتهي بالانفصال وانحلال الاتحاد، او زيادة تماسك أعضائه وترابطهم ودخولهم في اتحاد فيدرالي بدل عن الاتحاد الكونفيدرالي.

وبهذا نميز الكرد وخصوصيتهم ونصحح ظلم التاريخ والجغرافية لهم ونطمئن مخاوفهم، وفي الوقت نفسه لا نعمم سلطاتهم «ومكتسباتهم» على باقي أجزاء العراق، إذ ببساطة لن يعود هناك عراق.