فزاعة التطبيع في مؤتمر حوار الأديان

TT

شكل مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد الأسبوع الماضي في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبرعاية خاصة من الملك عبد الله بن عبد العزيز، منصة إعلامية موازية، تركز النقاش فيها حول الهدف منه، هل هو هدف فكري ديني (الحوار)، أم هو هدف سياسي محدد يتركز على التطبيع مع إسرائيل؟ وكان تواجد الملك عبد الله مع الرئيس شمعون بيريز في قاعة واحدة، حجة أساسية يعتمد عليها الصحافيون والإعلاميون في تبرير أحاديثهم وتساؤلاتهم. وحين تطرق شمعون بيريز في كلمته إلى مبادرة السلام العربية، وهي مبادرة سعودية في الأصل، تشجع الكثيرون أكثر وأكثر من أجل تعمد رؤية الأمور من هذه الزاوية.

وإذا قبلنا أن ننظر إلى المؤتمر من زاوية نوعية الحضور، أي من زاوية تواجد الملك عبد الله والرئيس بيريز، فإننا نستطيع أن نرى تمايزا بين أهداف الرجلين، وبين غايات الرجلين، تمايزا يصل إلى حد التناقض.

نبدأ بقضية التطبيع التي يشار إليها كفزاعة، بينما هي أبسط من ذلك، وأصعب من ذلك في آن.

أبسط من ذلك بالنسبة للملك عبد الله، فهو صاحب مبادرة السلام التي تحولت إلى مبادرة عربية رسمية ومعلنة، وهي مبادرة عربية تقول إنه إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وقبلت إنشاء دولة فلسطينية فوقها، وقبلت عودة اللاجئين الفلسطينيين، فإن الدول العربية ستقيم معها علاقات طبيعية. نحن هنا إذا أمام دعوة علنية للتطبيع. ولا توجد بالتالي حاجة للاجتهاد، ولا حاجة للاستنتاج، ولا حاجة للاتهام، بأن هناك من يسعى خفية للتطبيع مع إسرائيل.

أما الأصعب من ذلك، فهو بالنسبة للرئيس شمعون بيريز. فهو رئيس دولة رفضت رسميا مبادرة السلام العربية ولا تزال ترفضها. وهو أعلن شخصيا قبل فترة وجيزة، أن التفاوض الثنائي مع الفلسطينيين وسوريا قد فشل، ومن الجيد أن نجرب التفاوض الجماعي حسب مبادرة السلام العربية. وهنا لا بد أن نلاحظ أن موقفه هذا لم يتضمن إعلان موافقته على المبادرة العربية. فهو لا يقبلها إنما يريد التفاوض على أرضها. وهنا لا بد أن نلاحظ أيضا أن الرئيس بيريز كان موجودا في القاعة برفقة وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني، وهي أيضا المرشحة لتشكيل حكومة إسرائيل الجديدة، وفي العرف الإسرائيلي، فإن الرئيس هو مجرد حالة رمزية، ولا يملك أية صلاحيات سياسية، وأن رئيس الوزراء أو وزير الخارجية يملك صلاحيات تقريرية أكثر منه بكثير. ووزيرة الخارجية الإسرائيلية المرافقة لبيريز أعلنت دائما أنها ضد مبادرة السلام العربية، وأنها لا تقبل التفاوض على أرضيتها، بل وأعلنت أنها لا تتعامل مع تصريحات، سواء كانت تصريحات الرئيس بيريز أو تصريحات رئيس الوزراء المستقيل إيهود اولمرت، وإنما تتعامل مع برامج، وبرنامجها هو برنامج حزب كاديما، الذي لا يقول شيئا عن مبادرة السلام العربية.

وعلى ضوء هذه الوقائع، من حقنا أن نسأل: أين هو التطبيع إذا؟ والجواب جاهز يقول: إن ما يجري هو تمهيد للتطبيع، والتمهيد لا بد أن يعني قبول المبادرة العربية، وتطبيقها، ثم يلي التطبيع بعد ذلك، وهذا مطلب عربي رسمي وعلني. أما إذا لم تقبل المبادرة، ولم تطبق، فإن الجواب هو أن لا تطبيع، ولا حتى لقاء أو تفاوض، كما شرح ذلك الرئيس حسني مبارك للرئيس شمعون بيريز حين زاره ليبحث معه الموضوع مباشرة.

وإذا كان البعض يظن أن الحديث الإسرائيلي عن مبادرة السلام العربية، سيقود إلى نوع جديد من المفاوضات، تروج للتطبيع كشرط من شروط حل الموضوع الفلسطيني المتأزم، فإن المنطق يشير إلى عكس ذلك، يشير إلى أن إسرائيل وبعد أن استنفدت كل ما يمكن أن تستفيد منه في إطار التفاوض الثنائي مع الفلسطينيين، تريد أن تقفز من فوق الموضوع الفلسطيني للوصول إلى العرب مباشرة. وهي تريد أن تقفز هذه القفزة الكبيرة جدا، من دون أن تتعهد بتقديم شيء مقابل. إنها تطرح على العرب عملية استغفال تقوم على مضمون وحيد هو استعمال كلمة مبادرة السلام العربية. ولا تحسب أن أحدا يسعى إلى قبول عملية استغفال لا ثمن لها، ولا مقابل لها، باستثناء بعض الساسة الذين اخترعوا منذ أشهر نظرية (السلام الاقتصادي)، ويريدون جر الفلسطينيين نحو تفاهم يضمن لهم شؤون المعيشة، ويؤجل البحث في القضية الفلسطينية برمتها.

ولا بد أن نقف هنا أمام الجانب الآخر من الموضوع، الجانب الذي يحرك المسؤولين السعوديين ويجعلهم مهتمين إلى هذا الحد بحوار الأديان. وهنا لا بد أن نشير إلى أن قضية الحوار، كانت ومنذ سنوات قضية سعودية أساسية، بدأت داخلية ثم أصبحت داخلية وخارجية. وفي كل الحالات فإن الداعي لهذا الحوار وراعيه كان ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ثم الملك عبد الله بن عبد العزيز.

بدأت المسيرة الأولى في أواخر الثمانينات، حين نظمت السعودية مهرجان الجنادرية، ونظمت بداخله ندوة الجنادرية الفكرية التي استقبلت عشرات المثقفين من خصوم السعودية وأصدقائها. وأوكلت هذه المهمة في حينه إلى الشيخ عبد العزيز التويجري رحمه الله. كان الهدف من هذه الندوة كما فهمها ضيوفها، هدفا سعوديا داخليا، يسعى إلى تشجيع المثقف السعودي على الحوار مع أنداده، سواء كان يلتقي معهم أو يختلف معهم، وسط جو مضاد لمثل هذا الحوار مع «المختلفين»، ومعاد حتى لمجرد استقبالهم. ويذكر الذين شاركوا في ندوات الجنادرية الأولى، كيف أن فريقا من المثقفين السعوديين كان يرفض الذهاب إلى قاعة الندوة، كتعبير عن استيائه. ثم بدأ يتجمع خارج القاعة من دون الدخول إليها كتعبير عن استيائه. ثم قرر أن يدخل إلى القاعة مناقشا مشاغبا. واستمع من المدعوين العرب إلى ردودهم ومواقفهم. ثم راقت هذه اللعبة للجميع، وبدأ المنتقدون يحضرون بكثافة، لينتقدوا، وليهاجموا الآراء التي يسمعونها. ولكن عند هذه النقطة، كان الحوار مع الآخر (الخصم) قد أصبح قضية مقبولة من الرافضين له. وحققت الجنادرية بذلك إنجازا داخليا سعوديا هاما، لم يكن بعض المشاركين العرب في الندوات مدركا له أحيانا.

بعد الجنادرية، جاءت أحداث 11/9 في نيويورك وواشنطن. ووجهت انتقادات واتهامات أميركية ضد السعودية والعرب والإسلام والمسلمين. وبدأت الولايات المتحدة رسميا ما سمته الحرب ضد الإرهاب. ووصلت أصداء العمليات الإرهابية إلى السعودية نفسها (أحداث 2003)، وهنا لم يكن الرد السعودي برعاية من الملك عبد الله أمنيا فحسب، بل تم تنظيم وإطلاق حوار داخلي كثيف. تم أولا إنشاء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وتم داخل هذا المركز تنظيم سبعة لقاءات وطنية، بدءا من 15/7/2003 وحتى 23/4/2008، وجرت في هذه اللقاءات مناقشة قضايا حيوية منها: قضية الوحدة الوطنية، الغلو والاعتدال، المرأة وحقوقها وواجباتها، وقضايا الشباب، ورؤية وطنية للتعامل مع الثقافات العالمية. وكان هدف هذه الحوارات كلها، إيجاد مناخ ثقافي يناقض ثقافة الإرهاب ويرد عليها، كما يرد على الحملات الإعلامية الخارجية التي تصور المجتمع السعودي كمنتج ومصدر للفكر الإرهابي.

وتكميلا لهذا المنهج التطويري، بادر الملك عبد الله إلى تنظيم مؤتمر حوار الأديان في إسبانيا مطلع عام 2008، متعاونا ومنسقا مع ملك إسبانيا خوان كارلوس. ثم بادر إلى رعاية دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى ملتقى حوار الأديان الذي أثار كل هذه الضجة التي نحن بصددها.

إنها إذن مسيرة طويلة، بدأت من داخل السعودية لإشاعة ثقافة الحوار مع الصديق ومع الخصم. وتطورت داخل السعودية لتوطيد ثقافة حوار ترد على الإرهاب الداخلي. وها هي المسيرة نفسها تنتقل إلى المجال الدولي عبر إسبانيا والأمم المتحدة، لمواجهة الإرهاب بآفاقه العالمية، ومن خلال تشجيع حوار الحضارات وحوار الأديان.

وإذا كان مقدرا لمبادرة السلام العربية أن تجد لنفسها موقعا في هذا الحوار الممتد والمتواصل، فإن الأمر سيكون نجاحا للدبلوماسية العربية. أما إذا تعذر ذلك فإن الأمر سيكون نكسة للدبلوماسية الإسرائيلية التي لم تستطع أن تفهم مسار الدعوة العربية للسلام، فرفضتها في البداية، ثم سعت للتحايل عليها في النهاية.