غفر الله لنا

TT

حسب ما أعرف أن منطقة المدينة المنورة تعرضت لثورات براكين وزلازل أشهرها ما كان في وقت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها كانت خفيفة نسبياً، أما ما حدث بعد ذلك بستة قرون وتحديداً سنة 654 هجرية فكان مختلفاً تماماً، حيث كانت عنيفة جداً واستمرت أربعة أيام، وتأثيرها وصل إلى دمشق في الشام وإلى بغداد في العراق؛ ففي دمشق وصل الهباء البركاني لها بعد أحد عشر يوماً وأصبح نهارها كأنه الليل الدامس، وفي بغداد فاضت دجلة والفرات وأغرقت بغداد وجعلت الخليفة يهرب من دار الخلافة، وذهبت المياه ببيت المال ومخازن السلاح.. وأخذ الناس يرددون الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة وجاء فيه: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الجمال ببصرى. ولكن من حسن الحظ أن الساعة لم تقم في ذلك الوقت، وأصدق دلالة أننا لا زلنا أحياء، ولكن من المحتمل أنها سوف تأتي فيما بعد.. وتوثيقاً لتلك الحادثة نظم أحد الشعراء قصيدة جاء فيها:

سبحان من أصبحت مشيئته جارية في الورى بمقدار

وأغرق بغـداد بـالميـاه كـما أحرق أرض الحجاز بالنار

وتأكيداً لذلك دخلت على (غوغل) في الانترنت وركزت على موقع المدينة المنورة الجغرافي وشاهدت بالعين فوهات ستة براكين متقاربة ومنتظمة (كحبات المسبحة)، وهي لا تبعد عن المدينة أكثر من 150 كيلومترا، وأظن أنها هي التي تفجرت.

وقرأت ما كتبه المؤرخ (شهاب الدين أبو شامة) نقلاً عن (شمس الدين بن سنان) قاضي المدينة ويقول: في يوم الاثنين وفي الثلث الأخير من الليل حدث الزلزال العظيم، وخرجنا من منازلنا راكضين صائحين ونحن نشاهد بأم العين ناراً تشق عنان السماء بارتفاعات هائلة إلى درجة أن من كان بتيماء يستطيع أن يقرأ الكتاب على ضوئها ووهجها، وقد سال منها نهر من الحمم المنصهرة وسد الطريق ووصل إلى بحرة الحاج. وتجمع أهل المدينة كلهم برجالهم ونسائهم وأطفالهم في مسجد رسول الله، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً ترتعد منه العظام، فما كان مني إلاّ أن أصيح بالأمير الذي كان مكباً على وجهه في الروضة الشريفة يبكي ويتضرع، وقلت له: ارجع إلى الله واعتق كل مماليكك ورد على الجماعة أموالهم، فجهر بصوته على الناس يشهدهم انه أعتق كل مماليكه وان أمواله ستذهب كلها للناس صدقات، وحذا كل من في المسجد حذوه، وتصالح الخصماء وتعانقوا، وقال كل دائن انه متنازل عن دينه وكل مظلوم انه متنازل عن مظلمته، وكل سارق اعترف بسرقته، وكل زان أشهد الجميع على فعلته، وكل معاقر للخمر أعلن توبته ووعد انه سوف يهرق ويسكب كل الخمور التي في بيته، وكل مومس أخذت تحثو التراب على رأسها وتطلب الغفران من رب العالمين. ولازلت أذكر ونحن متحلقون حول حجرة الرسول، كيف أن المنبر كان يهتز، والحديد يتكسر، والقناديل تضطرب وتتساقط.. ومكثنا على هذه الحال من الاثنين إلى الخميس، وفي صباح يوم الجمعة هدأت الأحوال وصفا الجو، وخرج الناس غير مصدقين أن الله قد أنجاهم.

وإذا بالأمير ينكث بوعده ويرجع العبيد إلى عبوديتهم، وعاد الناس إلى خصوماتهم، ولحس كل واحد كلامه الذي اعترف به، بل أن بعضهم والعياذ بالله قد احتفلوا بذلك بضرب الدفوف وعزف الرباب والانغماس بشرب المسكرات.

انتهى كلام القاضي (ابن سنان)، وهو ذكرني ببيت الشعر القائل:

صلى المصلي لأمر كان يطلبه

فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما

وهذا هو ما كنا نفعله ونحن تلاميذ أيام الامتحانات.. غفر الله لنا.

[email protected]