بغلتها

TT

استكان العربي الى القمر وأحبه. فقد أضاء ليله الرطب، بعكس الشمس التي تبعث في نهاره الجاف القيظ والحر ومعه الهجير والعطش. وهو رفيق المسير في الترحل الطويل، ولذا لا يقول فيه أطل بل أهَّل. وأحب الشهور عند العرب لم يقس بظهور الشمس بل بظهور الهلال في السماء. وذكَّر العربي القمر وأنَّث الشمس خلافاً للشعوب الاخرى.

ومثل شعراء الحضارات الاخرى أحب الشاعر العربي القمر واكتماله بدراً يرى فيه وجه حبيبته البعيدة. ففي مرآته يناجيها وفي ضوئه يكتب لها، وإذ يصعب حضورها في لحظات الشوق لأنها خلف المضارب، لا يؤنس وحدته وحنينه سوى هذا الشارق في الاعالي، بهيج النور، فضي الضوء، مشع النور غير محرق ولا مظمئ ولا قاتل. وإذ ينير الفلاة وفضاء المكان بلا حدود، تتزاحم من حوله الأنجم ويلمع ذهب المجرات، وتطرب المشاعر، ويهتف البدوي: يا ليل، يا عين. او تغني فيروز ساخرة وحزينة ومتعجبة: «القمر بيضوي عّ الناس، والناس بيتقاتلوا».

هل يتعين علينا أن نعيد في كل مرحلة من العمر، قراءة ما قرأنا في المراحل السابقة؟ أحيانا، والأرجح غالبا، كلما أعدنا القراءة ازددنا إعجابا ومتعة وعطشا الى القراءة من جديد. أحيانا اخرى، نشعر بالندم. ليتنا أبقينا على الصورة الماضية. لا أدري لماذا، ودون سبب او مناسبة، عدنا الى قراءة عمر بن ابي ربيعة. وارجو ألا يقول لي أحد إن هو إلا نزار قباني عصره، لم يفضح اكثر مما فضح، ولم يفصح اكثر مما افصح، وانتبه جنابك الى عبقرية اللغة ولاحظ كيف تتغير الكلمة بمجرد وضع نقطة على حرف الصاد، ويتشابه المعنى.

لقد عاش عمر في عصر وعاش نزار في عصر. واحد كتب من حرمة المضارب وآخر من أقبية باريس. اما لماذا «أقبية» فلأن باريس بعيد الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال تسهر في الاقبية حيث التقى نزار حورياته الاوائل. آسف، لكن العمر جعلني ألحظ في شعر عمر إسفافاً كثيراً. ليس في رائتيه الاشهر فحسب (قالت الكبرى) بل في رائاته الاربع.

ولقد امضينا هذا العمر نحسب لشعراء هائمين في ضوء القمر كما في عنوان محمد الماغوط الشهير «حزن في ضوء القمر». لكنني اكتشفت ان أخانا ابن ابي ربيعة يرى صاحبته:

هي الشمس تسري على بغلة

وما خلتُ شمساً بليل تسير

ماذا تفضلت؟ بغلة؟ ايه تضرب.