دولة الإذاعة

TT

ليس للمذيع الكثير مما يتذكره. أو بالأحرى ليس لديه المثير. لكن هذه القاعدة تنطبق على مذيع في النروج، أو في آيسلندا. أما إذا كنت مذيعاً في الإذاعة العراقية يوم نقل إليها الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم «لمحاكمته» وإعدامه، فلا بدَّ أن يكون لديك شيءٌ ترويه. لا أدري بماذا أصف كتاب «دولة الإذاعة» لإبراهيم الزبيدي. ماتع؟ مدمّر؟ عاتم؟ مفزع؟ مقلق؟ يذكر بكل ما يجب أن ينسى؟

كان إبراهيم الزبيدي واحداً من أربعة يافعين في أزقة تكريت التي لم يكن فيها شارع مسفلت واحد. العضو الآخر في الفرقة كان يدعى صدام حسين. وقد تردد في الماضي في نشر ذكرياته «لأنني كنت أخشى على نفسي من الذين تمكنوا من السلطة بعد فقر وجهل فقرروا أن يستخدموا تلك السلطة والمال لمحو ماضيهم وملاحقة رفاق طفولتهم وفتوتهم ممن يعرفونهم على حقيقتهم. فأعدموهم أو غدروا بهم بأكثر من طريقة، ولم ينج من رفاق الأمس غير الذي استطاع أن يثبت أنه بلا ذاكرة». يصف الزبيدي بلدته تكريت أوائل الستينات بأنه «لم يكن فيها شارع كما تعرف الشوارع الآن، فأغلبها درابين، أي أزقة ضيقة، إلى حد أن حماراً يحمل كيساً يتوقف سيره عندما يصل إلى مدخل أحد الأزقة، فيحمل صاحب الحمار الحمولة عن حماره ليوصلها إلى أصحابها». وأما «المهنة الغالبة في تكريت فالبطالة». وقد نزح إلى تكريت رجال من قرية العوجا القريبة «ولأن أهل تكريت مسالمون وهادئون ومتدينون، فقد كرهوا النازحين الجدد، وهم يرونهم مسلحين بخناجر ومكاوير. والمكوار عصا متينة طولها نصف متر، يكلل أحد طرفيها بكرة من القار الصلب لفج رأس الخصم عند القتال». يروي الزبيدي اللحظات الأخيرة في مبنى الإذاعة لعبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي، رئيس أشهر المحاكم العربية: «عند نزول المهداوي من الناقلة هجم عليه جمع غفير من العسكريين والمدنيين وانهالوا عليه بصاقاً وضرباً بالأيدي والأرجل والأحذية ورأيت الدم يسيل على وجهه ويغطي رقبته. ثم جاءوا بوصفي طاهر، المرافق الأقدم للزعيم، وهو في أنفاسه الأخيرة، فألقوه في الممر الجانبي للمبنى. وما زلت أذكره وهو يلفظ آخر أنفاسه».

ويروي الزبيدي كيف طلب منه عبد السلام عارف العام 1964 تسجيل خطاب سيلقيه عن محاربة الأكراد، وراح الرئيس يمضي في الكلام الممل والكلام الفارغ والألفاظ السوقية السخيفة المخجلة. هو يخطب وأنا أسأل نفسي: ماذا سأفعل بهذا الخطاب؟ كيف سنذيعه على الناس؟ وقبل أيام كانت قد سرت إشاعة عن انقلاب دبره القوميون العرب، فقال الرئيس «ما ظلَّ علينا غير العربنجية. والله اللي يمدّ رأسه منهم أقصه بقندرة». وللقارئ العربي أوضح أن الحذاء هو كل شيء في الشتيمة عند العراقي.