الذين ثقبوا جدار اليأس!

TT

سؤال خالد لم يتفق البشر بعد على جواب موحد له: من يصنع حركة التاريخ ويحدث التغيرات في المجتمعات؟ البطل الفرد الاستثنائي، أم ظروف موضوعية وشروط اجتماعية واقتصادية توفر إرادة التغيير وتظهر حركة التغيير على يد فرد ما، لكن هذا الفرد ليس إلا «مرآة» تعكس حقيقة الفعل في مكان آخر.

منذ القديم، وهذا الجدل لم يتوقف بين أنصار دور الفرد البطولي في حركة التاريخ، وأنصار الاتجاه الاجتماعي والاقتصادي في إحداث التغيير، المقاربات التاريخية منذ أيام الإلياذة إلى أيام كتاب السير الفردية البطولية، مثل سيرة صلاح الدين لابن شداد، وهي تكرس واحدية دور البطل الفرد في صناعة التاريخ ونقله من محطة الى محطة، غير أنه كان هناك اتجاه، في وقت لاحق، يوزع الاهتمام بين دور الفرد ودور الجماعة أو الظروف الموضوعية، وابرز مثال عليه في ثقافتنا العربية والإسلامية هو اتجاه المؤرخ والحكيم ابن خلدون الذي ركز على دور «الشوكة» والعصبة ودرس كيفية نشوء الامارة في السياق العربي والاسلامي بالنظر الى الظروف الموضوعية.

هذا الجدل لن ينتهي بين مركز على دور البطل في صناعة التاريخ ودور الجماعة التي هي مرآة التغيرات، وفي تراثنا الإسلامي نجد لكل الاتجاهين سندا من النصوص، فأنصار الاتجاه الفردي يستدلون بـ: «إن الله يزع في السلطان ما لا يزع في القرآن» وربما يستدل أنصار التوجه الجماعي الذي يركز على توفر البيئة الموجدة للتغير بـ: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

لندع هذا، ولنتفحص لحظتنا الراهنة، وهنا سأتوقف كثيرا عند فردين وتغييرين يحدثان الآن، وهما قيد التشكل، فوز أوباما التاريخي، وقيادة الملك عبد الله، ملك السعودية، مهد الحرمين ومنطلق الدعوة السلفية، كل أتباع الديانات والفلسفات الإنسانية إلى التآخي والحوار والاتفاق على مشتركات الإنسانية. ومن غريب المصادفات أن يتزامن مؤتمر حوار الأديان الذي رعاه الملك عبد الله، في الزمان والمكان مع فوز أوباما التاريخي.

إنهما حدثان ضخمان، من نوعية الأحداث التي لا تنتهي بانتهاء الحفلة، ميزتهما توفر عنصر الجرأة ووجود لذعة الإدهاش واختراق التوقعات، ببساطة إنهما حدثان ينفضان سجادة الرتابة، يقف خلف كل منهما بطل فرد.

أوباما،أصبح الشغل الشاغل لسكان المعمورة، للدرجة التي صار العالم كله يشعر أنه هو الذي انتخب هذا الشاب ابن المهاجر الذي شق طريقه بنجاح مذهل نحو البيت الأبيض، وليصبح قائد العالم الغربي برمته، لقد تحول باراك إلى أيقونة روحانية لدى أنصاره، وهم في العالم كله، واختلف المفسرون في تفسير هذه «الاستثنائية» التي حظي بها هذا السياسي النحيل الأسمر، لكنهم اتفقوا على وجود استثنائية ما فيه، جعلته يكتسح امريكا، قالوا إن ذلك بسبب الكارثة الاقتصادية، وقالوا بل بسبب الملل من حالة الخوف التي عيشهم فيها الجمهوريون، وقالوا بل إن ذلك راجع إلى نضج حركة الحقوق المدنية التي تناهض التمييز العنصري، وأن باراك هو قطاف الشباب العولمي المختلط في أمريكا الذي حطم الحواجز التقليدية، لكن الأكيد أن اوباما أكثر من مجرد رئيس لأمريكا، إنه «أمل» أمريكا، وهنا تكمن الفرادة ... والخطورة أيضا! في التقرير الذي كتبته مجموعة من كتاب مجلة النيوزويك الأمريكية الاسبوعية في العدد الأخير، لاحظ الكتاب أن باراك يحظى بـ: «ملكة الوعي بالذات بالنسبة إلى سياسي مثله. فهو أدرك أنه أصبح شاشة عملاقة عكس عليها الأمريكيون آمالهم ومخاوفهم، أحلامهم وإحباطاتهم. ربما لم يكن ذلك الشخص موجودا فعلا، ربما لم يكن ممكنا أن يكون موجودا، ولكن الناس كانوا يريدون مخلصا بغض النظر عن ذلك. وحيث إنه كان شخصيا واحدا من أصحاب أفضل كتاب كتب السيرة الذاتية مبيعا، فإنه قد اختلق لنفسه شخصية أسطورية، رجل يدعى باراك أوباما بحث وكد في السعي للتغلب على عذاب الكدح والعذاب في حياته، رجل وجد هويته والنداء الذي يناديه في الخدمة العامة. ويتذكر أوباما أنه كان غالبا ما يمازح فريق حملته بالقول: «هذا الباراك أوباما يبدو رجلا عظيما بالنسبة إلي. لست متأكدا أنني باراك أوباما، صحيح؟».

نعم ربما لن يوجد البطل المخلص الذي يبحث عنه الأمريكيون ومعهم العالم كله في صورة باراك اوباما، لكنه كان على الميعاد والتقط في لحظة خصوبة خيالية وإلهامية هذا الشعور والنداء الخافت من الجميع، فتقدم بجرأة وصعد على المسرح من الكواليس وقال: هذا أنا!

فكانت القصة التي رأيناها كلنا منذ أعلن السيناتور الأسمر عن نيته الترشح للرئاسة.

أما في فكرة الحوار بين الأديان وإطلاق فعالية جديدة وفكر مختلف نحو الحوار والتركيز على حقيقة أن كل سكان الارض هم «إخوة» فكانت أيضا من نوع الأفكار الخلاقة التي ولدت في لحظات خيال فعالة جدا، من أجل ذلك ارتبك كثيرون في الموقف من هذه الدعوة الإنسانية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، أكرر: ملك البلاد التي تحتضن قبلة المسلمين ومرقد نبيهم ويحج إليها أكثر من مليار مسلم وهي منطلق ومهد الدعوة السلفية الكبرى، وليس هذا فحسب، بل كانت دعوة مستمرة وملحة بجهد متواصل من مؤتمر مكة إلى مدريد إلى نيويورك.

ارتبك من ارتبك لأسباب كثيرة، فهناك في الغرب من قال: كيف تتبنى السعودية هذه الدعوة وهي التي تمنع الحرية الدينية، هذا في الغرب، وهنا في السعودية قال كثير من صقور المتدينين، سرا وجهرا، إن هذا لشيء عجاب، وإن هؤلاء المختلفين عنا كلهم لنا أعداء وسيظلون أعداء حتى يخضعوا لفكرنا ولن نلتقي معهم، وعنفوا من ساند الدعوة من المتدينين، إذن فقد واجه مشروع الملك جناحان متشككان جناح غربي وجناح شرقي، لكن الطير الذي بينهما، طير السلام والعفوية، حلق بأجنحة أخرى، أجنحة ليست متكسرة، بل متعودة على هواء السماء النقي.

لقائل ان يقول إن التركيز على دور البطل الفرد يعني تعزيز التفكير التقديسي وشطب التفكير الموضوعي، وإضفاء المزيد من الهالات التي لا نحتاج لها، خصوصا في الشرق العابق بعطور الأساطير، فحاجتنا هي إلى عيون مفتوحة باتساع على قوانين الحركة والتغير في التاريخ، وهذا صحيح ومطلوب أيضا، غير أن ميزة دور البطل الفرد هي في اختصار المسافات، وعبور التغيير على جسر الإيمان الجماعي بمثل هؤلاء الأبطال، إلى ضفة أخرى يكون فيها للعقلانية والتفكير الموضوعي مسرحا، أو حسب فكرة الإمام المجدد محمد عبده، نحن نحتاج في الشرق إلى مستبد عادل، حتى يقوى العود ويستوي الزرع على سوقه، لكن الخطورة في فكرة المستبد العادل انه لا خيار وسط فيها، يعني هي مغامرة كبرى، وككل المغامرات: حجم الربح فيها، إن حصل، كبير وغزير، لكن حجم الخسارة أيضا هو بذات المقدار، لأن منح فرد ما، أي فرد، وفي أي مجال، ليس في السياسة فقط، سلطات مطلقة، هي مغامرة تعني، إن كان الفرد الممنوح متعاليا على غرائز الطمع وشهوة الاستبداد للاستبداد، أن هذا الفرد سيطير بمجتمعه وشعبه إلى ارض الأحلام، أو قريبا منها، وهذا ما فعله الأبطال الذين صنعوا التاريخ وأعادوا تشكيل الأمم وحددوا اتجاه الحركة التاريخية، أمثال الاسكندر المقدوني وعبد الرحمن الداخل ونابليون بونابرت والملك عبد العزيز.

الفرق بين البطل الذي يوجد في مجتمع مقيد بمؤسسات دستورية معقدة وجماعات ضغط منظمة، وثقافة سياسية مختلفة، مثل أمريكا، أو أي بلد عربي آخر، هو في صعوبة ولادة البطل الفرد هناك وسهولته هنا في العالم العربي، لكن سهولة ولادة صورة البطل عندنا قد تكون عنصرا ضارا، لأن الجمهور مع تكاثر الأبطال من محمد علي باشا إلى عبد الناصر إلى صدام حسين وغيرهم ربما يفقد ثقته بأي مشروع فردي بطولي جديد، حتى ولو كان هذا المشروع حقيقيا هذه المرة، بينما تصبح شحنة التأييد والحماس، في بلدان ديمقراطية مقيدة لسلطة الرئيس البطل مثل أمريكا، تصبح أعلى وأكثر دفقا وحدة في ظل الأزمات الكبرى، حيث يحتاج الجمهور إلى رجل من خارج المؤسسات التي اعتادوا عليها، ومن هنا بشرهم اوباما بأنه قادم إلى واشنطن من خارجها.

الغرض من هذا الكلام، أن ما نراه أمام أعيننا الآن هو ادوار بطولية لأفراد أبطال، أتوا في لحظة انسداد تاريخي ودوران يائس في ذات الحلقة، فأتوا ليقدموا افكارا خارج الصندوق، ويفتحوا نوافذ للخيال المتعب بالمكرر من الأقوال والأفكار، وإذا نجحوا في مشاريعهم، فإننا على بوابات تاريخ جديد للبشر يؤرخ به، فيقال ما قبل كذا وما بعد كذا، وإذا لم يحصل النجاح، فيكفي الثقب الذي أحدثته هذه الأفكار الجريئة في جدار اليأس.

[email protected]