المطلوب دولة عراقية «مركزية» قوية ولكن..

TT

بعد 6 سنوات على التغيير الشامل في العراق، وعلى الرغم من وجود أكثر من 150 ألف مقاتل من قوات التحالف الغربي، عدا شركات الحماية، وآلاف من عربات القتال المدرعة والمدفعية وأحدث تجهيزات العصر القتالية، المغطاة بجهد جوي لا سابق له، الى جانب نحو 1.200.000 مسلح رسمي عراقي، لا يزال الوضع خطيراً ومرهوناً بالوجود الغربي.

ويدور الصراع، تحت الحماية الأميركية، على دور الدولة ومسماها: الاتحادي، الفيدرالية، المركزية، وهكذا.. يا للحيرة، لمن ينبغي التأييد والفعل؟

الدولة الاتحادية، تعني عدم وجود مسبق لأمة موحدة، وهي ليست حال العراق، الذي كان دولة واحدة وليست موحدة، لذلك فالأخذ بالمسمى الجديد يعني وضع أسس متعمدة للتقسيم عند الطلب، او عندما تحين الظروف.

الظروف الراهنة في العراق، المطوقة بمشاريع التفتيت وإثارة الفتن، والنعرات الطائفية والعرقية، والضيق من التوجهات الحزبية، تجعل العراق بأمس الحاجة الى دولة مركزية قوية (عادلة)، لا طائفية ولا عرقية ولا حكم الحزب الواحد. وهو توجه يحتاج الى اتخاذ قرارات شجاعة من دون التفات الى ما سيؤول اليه الحكم ومن سيتربع على كرسيه، لأن الحكم اليوم لا يمكن أن يستمر لأحد، ولأن العراق أهم، وبقاؤه مسؤولية أهم وأشرف من كرسي الحكم. لكن مفهوم العدل لا ينبغي أن يكون مهلهلاً أو مرحلياً، بل أن يكون قاعدة صلبة لإعادة تكوين أسس الدولة وتقويمها. وأول مقوماته نبذ الطائفية نبذاً صادقاً، ووضع شعار الدين لله والوطن للجميع، موضع التنفيذ، والعمل الجدي غير المقيد على تحقيق المصالحة الوطنية، لطي صفحات الماضي، بما في ذلك الصفحة الأليمة التي مر بها العراق بعد حرب 2003، التي فاقت آلامها ومآسيها كل ما مر على العراق. ولم يعد أحد يستطيع القول بأنه وحده قد ظلم، أو أنه لم يشارك في ظلم مقابل.

من يريد بناء دولة مركزية قوية لا بد أن يتجاوز تضخيم ما حصل قبل 2003، وأن يقبل (الآخرون) تجاوز ما حصل بعدها، ولا بد من التخلي عن المبالغات (المفرطة) في وضع القيود المبالغ بها من أجل منع عودة النظام السابق، مثل ما حصل خلال فترة كتابة الدستور المليء بالثغرات. ومن الخطأ الفظيع محاربة البعثيين، لأن حزب البعث كان أقوى حزب مر به العراق، وبما أن الآخرين، الأضعف، بقوا وأعادوا تماسكهم رغم ما لحق بهم من ضربات، فالبعثيون قادرون على التعايش مع الحال من جديد، لذلك لا بد أيضا من رفع قيود الظلم عن قواعد الحزب المتفهمة لمراجعة ما حصل، وليس أن يمنعوا من ممارسة حقهم في الحياة السياسية ولو في كيانات أخرى، وهذا يتطلب إعادة النظر بهيئة اجتثاث البعث، وليس أن يمنع من كان بعثياً بدرجة معينة عضو فرقة.. الخ، من الدخول الى البرلمان.

وهناك مشكلة بناء الجيش، فالعراق في حاجة جدية لنحو مليون عسكري، في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن، الى أن تنتهي مرحلة الانفلات والعبور الى ضفة الاستقرار، وهو توسع لا بد منه إن لم يكن حتمياً، والمفروض هنا إعادة أكثر ما يمكن من ضباط الجيش السابق، بما في ذلك الرتب الكبيرة، لمن يرغب في العودة، وأغلبهم قد لا يرغبون، وليس أن تكون الحال انتقائية على أساس العرق والدين والمذهب، أو من خلال تقديم الولاء لهذا الحزب أو ذاك. وهذا يتطلب أن يكون القادة الكبار مهنيين ومتدرجين، لا أن يمنحوا رتباً فخرية.

أن توزع الثروات على الشعب بالتساوي، وليس وفق نظرية هذه مدينة كانت مظلومة وتستحق أكثر، فحقيقة الحال أن مدن العراق متساوية في معاناتها الى حد كبير. أما إذا لم يسد العدل العراق، وحوربت قواعد البعثيين، وشعر منتسبو الجيش بالحيف، وبقوا جزءا من ملايين المشردين خارج العراق وفي المعتقلات، وبقي المسؤولون والمنظرون أسرى أفكار انتهت معطياتها، فلن يكتفي أحد بلامركزية المحافظات الخاضعة لسلطة المركز، وستنتشر جذور التفكك وتقوى، ولن يبقى عراق، لأن الحياة الحرة أهم وأجدر بالبقاء من حياة تحت ظلم يدوم.

سيقول البعض: سيعود البعثيون. هذا فهم خاطئ وخوف غير مبرر يدل على العجز والإفلاس السياسي.

مشوار العراق لا يزال مريراً وطويلاً. مع ذلك من يريد أن يركب أو يحدث موجة التغيير وبناء دولة مركزية قوية وعادلة، سيكتب له التاريخ، ويستحق أن تمتد اليه الأيدي بصرف النظر عن اللون والهوية والانتماء.